ناريمان علوش كاتبةٌ من بلادِ الأرز، تجيد رسمَ أساطيرَ أفريقيا بألوانِ عشتروت…

على مدى قبضتين للروائية ناريمان علّوش 

الشاعر والروائي والإعلامي أنور الخطيب:

قرأت روايةَ (على مدى قبضتين)، على فترتينِ متباعدتين، وما بينَهما، عرضتُ بعضَ الأسماءِ على السيد غوغل، أسماءٍ لمدنٍ وممالكَ وملوكٍ وأمراء، فأفادني بأنها حقيقيةٌ، تنتمي إلى تاريخٍ موغلٍ في القِدم، في القرنين الثامنِ عشر والتاسعِ عشر، و لم يقلْ لي السيدُ غوغل بأن ناريمان علوش كانت من بين كاتباتِ التوغو، أو مِن محارباتِ الداهومي،  لكنه قال بأن ناريمان علوش كاتبةٌ من بلادِ الأرز، تجيد رسمَ أساطيرَ أفريقيا بألوانِ عشتروت، وهذا ما زادَ من حَيْرتي، وسَكبَ في حقلِ تأمّلي أسئلةً ممتعة: كيف استطاعتْ ناريمان اللبنانيةُ، أن تتقمّصَ روحَ محاربةٍ من الداهومي؟ كيف ذابت في حكاياتٍ وقعتْ في القارةِ السمراء؟ وكيف سَقَطتْ في بئرٍ سحيقةٍ، لتقابلَ الكاهنَ مِرداس، الذي يصفُ نفسَه بقولِه؛ إنه موجودٌ في كلِّ مكانٍ وزمان، ويخبرُها بأنها (ستعبرُ أبواباً تأخذُها إلى حِقَبٍ زمنيةٍ مختلفة، حيث العدّادُ الزمنيُّ يختلفُ عن زمنِنا هذا، وكُلُّ يومٍ من زمنِنا يساوي مِئَةَ عام من الزمن الذي سترحلينَ إليه..). 

ومع الكاهنِ مِرداس، تبدأُ الحكايةُ، ويبدأُ سحرُ السّرْدِ الأسمر. ومِرداس هذا، يُحيلُنا إلى اسمٍ عربيٍّ إسلاميٍ من الكوفة، مِرداس ابن مالك، وتقول بعضُ الروايات، إنه أحدُ الصحابة، ولن نتوقفَ عند هذه المعلومةِ كثيراً الآن، رُغمَ أهميتها، لأنه، أي مِرداس، سيكونُ البوابةَ، التي تلجُ منها ناريمان، أو كايلا، إلى مجموعةٍ من الحكايات، التي تُشَكّلُ جوهرَ الرِّواية، فحين تقابلُ بطلةُ الروايةِ، مرداس، في قاع البئر، وتنهضُ على ساقيها بنشاط، وهي التي سقطت من عُلوِّ عشرينَ مترا، ندركُ أن السقوطَ، لم يكن مادياً، وإنما خيالياً، هو سقوطٌ في الزمن البعيد، الذي تذهبُ إليه الروائيةُ، لمحاربةِ الظالمينَ المتاجرينَ بالبشر، وهي فكرةٌ يمكنُ إسقاطُها على واقعِنا، لكنّها في الوقتِ ذاتِه، فكرةٌ تترجم وقائعَ حقيقيةً، ففي جمهوريةِ التوغو القديمةِ، كان بعضُ الملوكِ، يتاجرون بشعبِهم، ويبيعونَ أفرادَه كالعبيد، وجزءٌ من رحلةِ (كايلا)، بطلةُ الروايةِ، هو تحريرُ أختِها، والبحثُ عن أمها وأبيها، وجميعُهم خطفَتهم محارباتُ الداهومي، اللواتي يعملنَ عند الملكةِ فيزيزيغان، وتنجحُ في النهايةِ في تحريرِهم جميعاً، والعودةِ إلى “آرام”، زوجها الأسمرُ ذو العضلاتِ المفتولة، وتطلبُ منه العودةَ إلى المنزلِ، ليحكي لها قصصاً أخرى، تشبعُ شَغفَها وفضولَها. 

تتضمنُ الروايةُ معلوماتٍ تاريخيةٍ صِرفة، عن الصراعِ بين الممالك، وصراعِ  بريطانيا والبرتغال وفرنسا على أفريقيا، كما تتضمنُ وصفاً لأماكنَ حقيقيةً، مثل مدينةِ توغو، البئر، الكاتدرائية، إضافةً إلى بعضِ الأساطير، ما يدلُّ على أن الروائيةَ، ناريمان علوش، أجْرَتْ بحثاً معمّقاً، رفَدَتْ الروايةَ بمادتِه الثرية، ومَنحَتْها سحراً فوق السّحرِ الأفريقي.

البناءُ الفنّي للروايةِ جاء سلساً، ومِن دون تعقيد، بحيثُ تنتقلُ بين عالمينِ بسهولةٍ ودِراية، عالمِ البحثِ عن كايلا، وهو العالمُ الواقعيُّ الأرضي، والعالمُ الذي أرسلها إليه مِرداس، وهو الزمُن السحيق، وعلى الرُّغم من أنه يبدأُ من قاعِ البئر، إلا أننا لا نسطيعُ وصفَه بالعالمِ السّفلي، لأنه سَفَرٌ عَبر الزمنِ، لتصلَ إلى قَصَصِ الممالكِ، وتجارةِ العبيد، والقرابين، والمحارباتِ الشرسات. 

وعلى صلةٍ بالبناء، تنتهي الروايةُ من حيث بدأتْ مكانياً، بدأت عند فوهةِ البئرِ، وانتهت عندها أيضاً، مع فارق، أن كايلا، وُجِدتْ معضوضةً من قِبَل أفعى، وكانتْ قد سقطتْ في البئرِ، بسبب أفعى أيضا، وهنا يتداخلُ الماديُّ بالمعنوي، والمكانُ بالزمان، والماضي بالحاضر، لتقدّم لنا، ناريمان علوش، عالماً بين قبضتين.

لقد تركتُ الحديثَ عن مرداس إلى النهاية، وأرجّحُ، أن الكاتبةَ اطلعت على تاريخ مرداس ابن مالك الكوفي، لأنها حاولتْ إقامةَ جسرٍ بين الإسلام، والثقافاتِ الأخرى، لكن هذا لم يتضّحْ كثيراَ في الرواية، باستثناءِ رفضِ الشعوذةِ، وتضمينِ الروايةِ بعضَ الآياتِ القرآنية، وبهذا يكون ترجيحي من بابِ الفرضية القرائية الذاتية. 

وأخيراً، قراءةُ روايةِ (على مدى قبضتين)، تجربةٌ مثيرة، فيها المعرفةُ البشريةُ، والتاريخُ، والأسطورةُ، وفيها المعلومةُ والمتعة، ويمكن قراءتُها للحصولِ على متعةِ القراءة، أو الحصولِ على المعرفة.. 

ومبارك لناريمان هذا العمل المميز