قراءة في رواية على مدى قبضتين لناريمان علوش

قراءة في رواية على مدى قبضتين لناريمان علوش

مشلين بطرس

الدخول إلى مملكة التاريخ:
بتاريخ 3 تموز 2023 تفتح مؤلفة “بطلة” الرواية بوابةً على تاريخٍ مهمل، مازالت مآسيه تئن تحت وطاة واقعنا الحديث وعصر ما بعد الحداثة الذي نعايشه اليوم.
ليكون السرد في الرواية بضمير المتكلم الذي يوهمنا بتماهي صوت الراوية في النص مع صوت المؤلفة الحقيقية، كما يوهم القارئ بواقعية التجربة وحقيقة الشخصيات، وخاصةً أن مؤلفة الرواية ناريمان علوش عاشت تجربة الحياة في أفريقيا ولامست جراح و أوجاع الناس هناك مع محاكاة تاريخية لما عاشه أجدادهم من ظلم ورقّ واستعباد …

وتبدأ رحلةُ كايلا في الاستكشاف:
جلستُ على حافة البئر التي قام بحفرها الألمان عام 1910 متفاديةً النظر إلى عمقها … فجأةً ملأ النور المكان وظهر رجلٌ عجوزٌ يدعى مرداس ….!
وعلى الفور هنا تستحضر ذاكرة القارئ إلى فيلم “أليس في بلاد العجائب” ليبدأ عنصر التشويق في الرواية، ويبدأ الزمن الذي يشكّل ثيمةً رئيسةً في السرد فيمتدّ عبر الاسترجاعات البعيدة والقريبة ليستعيد أحداثًا وشخصيات من التاريخ، وتلعب المفارقات الزمنية ما بين الحاضر والماضي والمستقبل دورًا رئيسيًا في تخطيبه.
ويمتدّ زمن المتن الحكائي في الرواية من القرن التاسع عشر في سوقٍ لبيع الرقيق، مروراً بسفينة كلوتيلدا، والمحاربات الأمازونيات، وصولاً إلى الملك جليليه ومقتل أخيه أهانهانزو مرورًا بالملك غيزو حتى الرئيس لنكولن …
ليقطع مرداس أفكار كايلا قائلاً: “لا تخافي، فالعداد الزمني هناك يختلف عن زماننا هذا، فكلّ يوم من زمننا يساوي مئة عامٍ من الزمن الذي سترحلين إليه …”
ويبدأ زوجها آرام وأصدقاؤه رائف وإيوان رحلة البحث عن كايلا، “فلا يعقل أن تكون الأرض انشقت وابتلعتها”.

“لأني لستُ مستعدًا أن أكون عبدًا، فإني لا أقبل أن أكون سيدًا” لنكولن:
وتبدأ الشخصية والتي هي المورفيم الفارغ – حسب رولان بات- بالإمتلاء تدريجيًا بالدلالة كلما تقدمنا في قراءة النص …
لنجد أن كايلا شخصية مركبة دينامية امتازت بالتحولات الدرامية والتراجيدية، حيث تقمصت شخصيات تاريخية وأسطورية “كايدي” وواجهت حاضرها بماضيها، وماضيها بحاضرها عبر تناقض داخلي مستمر، ويلفظ البئركايدي لتعود إلى فضاء الرواية بشخصية كايلا …
أما آرام وأصدقاؤه فهي شخصيات رئيسة “محورية” استأثرت بالتبئير السردي ووجّهت دفّة تفاعلاته وربطت أحداثه بين الحاضر والماضي السحيق بخيوطٍ متشابكة خاصةً عندما قصد آرام وأصدقاؤه ذلك الكاهن لمعرفة مكان زوجته كايلا
لنجد أن شخصية الكاهن شخصية فنتازية “غرائبية” تميزت بالخروج الخارق عن قوانين واقعنا المألوف، واستطاعت إثارت الحيرة والتردد والشك والدهشة والفضول لدى آرام وأصدقاؤه، ولدى القارئ المتماهي بأحداث الرواية وشخصياتها، وذلك لمعرفة مالذي كان يحدث لهم أهو حقيقة أم وهم؟ فكانت تصرفات الكاهن غرائبية تحفز مخيلة القارئ وتمنحه مفاتيح البحث والإطلاع على الطقوس المتبعة آنذاك وتفسيرها العقلي والمنطقي، “فشهوة اليقين أقوى من شهوة الجنس أو الأكل، فجميعنا نبحث عن فكرةٍ ما نتمسك بها فقط لمجرّد الحصول على مشاعر الراحة والطمأنينة” كما قال د. محمود عباس في كتابه (الأحلام).

الخطيئة الأصلية لأميركا:
إن ما يحصل اليوم سيتكرر كل يوم وعلى مرّ الأزمان والعصور ، ستبقى شهوة الإنسان للسيطرة و التملّك … الشهوة للجنس والأكل واستعباد الآخر … ستبقى أهداف الإنسان وشهواته كما هي، إلا أن الأساليب وحدها ما سيتغير.
وتغوص بنا ناريمان في روايتها إلى أعماق تاريخٍ الأجداد فيه لا يموتون إنما يصبحون “الأوريشا”، فيعاني القارئ مع الأسرى “الشيبميتز” أو “رفاق السفينة” ويشعر بكمية الظلم ووحشية الإنسان التي تتضخم ولاتشبع حروبًا وحقدًا ودماءً.
وتذكر الرواية أسطورة “أوباتالا” الذي فشل بمهمة خلق كائنات بشرية، لأنه كان في حالة سكرٍ بسبب شرب نبيذ النخيل. فأصحاب البشرة البيضاء هم الذين أحرق بشرتهم بحسب المدّة المطلوبة، أما الأفارقة، فقد نسيهم في النار بسبب سكره.
فماذا عنا هنا نحن في بلاد الشرق فبالرغم من أننا في عصر الحداثة ومابعدها وتحديدًا في العام 2024 إلا أننا مازلنا نعاني الأمرين من الشهوة ذاتها ولكن بأسلوب جديد؟
و في الختام يبقى يتساؤل فوكو في كتابه تاريخ الجنسانية عندما يقول: “يحرّم الإنسان على نفسه أشياء ويبيح لها أشياء أخرى لماذا؟؟ لأن الرغبة هي فلسفة قبول واستبعاد، ولأن اللعب امتاع، براءة فوق الصدق والكذب … ”
ونبقى نحن على مدى قبضتين من الحياة …

2024/8/3