روبير البيطار تجاوز الشعر في تقديم لوركا سبيتي

هكذا قدّم الشاعر روبير البيطار الشاعرة لوركا سبيتي في الأمسية التي نظمتها دار ناريمان على مسرح الجامعة اللبنانية الدولية مساء الخميس ٢٠ حزيران.

أَن تَتَجاوز يعني أن تُحيل العالم إلى شعر. أن تقول الكلمة الّتي يتعانق فيها الزّمن والأبد فَيصيران واحدًا. أن تتجاوز يعني أن تنعتق من الواقع وتدخل عالم الممكن وما وراءَه. أن تتجاوز يعني أن تبحث عن اللغة الدّائمة البكارة، وعن الكلام الّذي يُعلن لانهائِيّةَ الحياة. أن تتجاوز يعني أن تكتب القصيدة النبيّة الّتي تنفلت إلى ما وراء الحدود، وأن تتوحّد مع الأمّة، أن يصير الشّاعر والإنسانيّة جمعاء واحدًا. أن تتجاوز يعني أن تكتب القصيدة الّتي تنمو في اتّجاه الأعماق، وفي تحوّلات العالم، وهي لا تُقال مُصادفةً ولا هي نتيجة وحيٍ أو مِزاجٍ عابر…أن تتجاوز يعني أن تكتب القصيدة الـمنفتحة، قصيدة الاحتمال. أن تتجاوز، والكلام لأدونيس يعني أن تُعارض الشّكل الـمنغلق الواحد الـمنتهي، بالشّكل الـمنفتحِ الكثير اللانهائيّ، أن تصير القصيدة عالَـمًا فسيحًا من الأوضاع والحالات الروحيّة والتعبيريّة فيما وراء الحدّ والنوع، وفيما وراء كلّ قاعدة وكلّ تقليد (من مقدّمة للشعر العربيّ)… أن تتجاوز يعني أن تقول اللامقول…
​وضيفتُنا الصّديقة الشّاعرة والإعلاميّة لوركا سبيتي، تعتلي المنبر هذه الـمساءةَ، بكلّ ما فيها من ثورة وغرابة وحرّيّة… لوركا الصّديقة الرّاقية الـمتواضعة، والوجه الإعلاميّ الفريد بثقافته الـممزوجة بالجمال الحقيقيّ، البعيدة عن كلّ ابتذال وتكرار. تجمعني بها الكتابة الطّالعة من العالم الطفوليّ، تجمعني بها الكلمة المنقّاة من الشّعوذة والألاعيب والرّصف الغبيّ. هي الّتي تكتب قصيدة الأبعاد والجمال المتجدّد الـمتموّج. قصيدتُها الخارجة من الواقع تجبهُهُ وتناقضه وتحطّم جميع أوهامه. نصّها نسيج خصوصيّ من الكلام، تنصهر فيها الكلمات والأفكار (العقل) والمشاعر والرؤى في دفقٍ واحد. قصيدتُها الخالية من الشّكل الـمفروض من الخارج أو من القالب الجاهز، حركة تمرّديّة تدميريّة تشبهها، تسعى من خلاله إلى تخطّي الموروث لإنشاء شكل جديد لم تعهده اللغة من قبل، وهذا شأن جميع الحداثويّين الّذين يرفضون أيّ حكم مسبق مفروض على القصيدة. وهنا أودّ الاستطراد قليلًا في هذا المجال، عائدًا إلى كتاب سوزان برنار الشّهير “قصيدة النثر”، الباحثة عن جسور خفيّة تصل ما بين النثر والشعر، وترى أنّه ينبغي دائمًا تفادي السّقوط في الفوضى حين نميّز بين هذين الفنّين: النثر والشّعر . فالشعر هو دائمًا تلك الكلمة الشّاملة الجديدة الغريبة على اللغة وكأنّها التمائميّة الّتي تحدّث عنها مالارميه، وبإزاء النثر الّذي تشكّل الجملةُ وحدتَهُ فإنّ الشّعر الـمعزول طوبوغرافيًّا الـمكوّن من سطر ومن بياض كما يقول كلوديل يشكّل وحدة منطقيّة أحيانًا، ووحدة شاعريّة في جميع الأحوال، ويرمي التضمين أكثر فأكثر إلى تحطيم الوحدة المنطقيّة. فقد كتب هنري غيون على سبيل المثال يقول إنّ كلّ وحدة فكريّة تعبيريّة وكلّ وحدة منطقيّة في الحديث سوف تخلق وحدة إيقاعيّة في الـمقطع الشعريّ.
​وسواءٌ أفكّرت لوركا سبيتي في هذا الأمر أم لم تفكّر، فهي قد أقدمت على إعادة ترتيب العالم في لا وعيها، بطريقة جديدة، أنتجت نبضها من داخل، ولم تحتج إلى تنفّس اصطناعيّ أو شحنات كهربائيّة آتية من خارج. وهذا السّلوك الشكليّ المرتبط ارتباطًا عضويًّا بالمحتوى، يشير إليه رولان بارت في كتابه “الكتابة في درجة الصفر” ذاكرًا أنّ الأبعاد الّتي ترسم الإبداع الأدبيّ يُضاف إليها حديثًا عمقٌ جديد هو الشّكل الّذي يؤلّف بمفرده نوعًا من الأوالية (الميكانيزم) الـمتطفّلة على الوظيفة الفكريّة. فالكتابة الحديثة نظام حقيقيّ. مستقلّ، يتنامى حول العمل الأدبيّ، ويزخرفه بقيمة غريبة عن مقصده.
​ضيفتنا الجنوبيّة ابنة بلدة كفرصير العامليّة، قضاء النبطيّة، رياضيّة حائزة على دبلوم في التربية البدنيّة، وراقصة، انتقلت من رسم لوحات جسديّة مع فرقة كركلّا، إلى الرسم بالكلمات على صفحات العالم الـمغبرّة. تلمح في نصّها نظرة خاصّة إلى الـمجتمع والحياة بطريقة فلسفيّة، هي الحائزة أيضًا على ليسانس في الفلسفة من الجامعة اللبنانيّة. ابنة بيت يسارُهُ الجهات كلّها، والدها الشّاعر الحرّ الخارج عن القانون، الكبير مصطفى سبيتي.
​قلمها لم يتحرّك في مدارات الشعر فحسب، بل تنقّل في مجالات عديدة بدءًا بالمقالة على صفحات أهمّ الجرائد والدوريّات كالسفير والنهار والقدس العربيّ والمستقبل، إلى قصص الأطفال ولها في هذا الـمضمار باعٌ طويل، فقد نالت، عن جدارة، جوائز عديدة كان آخرها جائزة اتّصالات لأدب الأطفال في فئة أفضل كتاب لعام 2017 عن قصّتها “لي بدل البيت بيتان”، ولها أيضًا سلسلة مؤلّفة من قصّتين: آدم والحلم. وسمسم في بطن ماما. وأخيرًا قصّة “أنا أنمو أنا أكبر” الصّادرة عن ميترا للنشر والتوزيع. دائمة النضال والرفض، وهي كما تكتب في مقالاتها لا تؤمن بالنضال الـموسميّ العابر، بل إنّ هذا السّلوك حركة لا تتوقّف أبدًا.
​لها صولات وجولات في العمل الإعلاميّ فقد أعدّت وقدّمت برامج ثقافيّة في صوت الشعب وصوت لبنان ( صوت الشعب وبالحب وبس )، و في التلفزيون برنامج “إسأل قلبك” عبر قناة ال NBN، وحاليًّا تقدّم برنامجًا تلفزيونيًّا بعنوان مش مزح على قناة ال OTV.
​أمّا في الشّعر فلها “أنت لي تحرّر”، و “عند أوّل مرسى” و “ليس سوى الأرق” و “مصحّ عقليّ” وأخيرًا “هذا كلّه قبلك” الصادر عن دار النهضة والّذي وقّعته الشّهر الفائت في البيال.
​أنا أيّها السيّدات والسّادة، لا أبشّركم الليلة بأميرة الشّعر، ولا أعلن فَتْحًا في القصيدة العربيّة. الأمر أبسط من هذا بكثير، فأنا أحذّركم فقط، وأنبّهكم لأنّ النصّ الّذي ستسمعونه ككلّ النّصوص السورياليّة الجديدة قد يصدمكم ويدهشكم، وقد لا يلامس شغاف عواطفكم… ولكنّني أؤكّد لكم أنّكم لن تقفوا حيال نصّها موقفًا محايدًا. مع أنّه نصّ لا يدّعي، ولا يريد أن يكون سواه. إنّه نصّ التجربة الصّادقة النّابعة من عمق الإنسان الحديث ومن همومه . فلوركا كما كتب عنها الشاعر شوقي بزيع تتّكئ في بعض قصائدها على التأليف وتقصّد الغرابة وإعمال الذهن، وتذهب أحيانًا إلى الأماكن المتصلة بالقلب وتفاصيل العيش والارتطام المباشر بأسئلة النفس ومكابداتها.
سورياليّتها أحيانًا، نزوع إلى إعادة صياغة جديدة للعالم الرّتيب الـمملّ، كما في قولها: رتبت لاوعيي في جوارير\ ونوّمته ببعض المهدئات\ قهقهات تغرق هذا العالم الجافّ\ المليء بدمى محشوة بالقش…
أخيرًا، أترك لضيفتنا أن تقدّم نفسها بنفسها. وأختم بكلام لها عن نفسها، الغاربة في عوالم الشّعر والرّياضة وما بينهما، لموقع “أنطولوجيا السرد العربيّ” تقول: “إسمي لوركا… أكتب الشعر وأدرّس التربية البدنية… في الحالتين أحيك ذاتي وأسبرها لأفتش فيها عن اكتمالي… في الشعر خمس مرايا تعكس الروح والجسد والحياة والموت والآخر… وفي الرياضة تـهذيب لما تعكسه المرايا الخمس وتشذيب للعبة الضوء والظل فيها…”