قرأتُ هذا الأسبوع ثلاثة كتب في كتاب واحد لمربية الحروف الكاتبة والشاعرة ناريمان علوش .
الكتاب الذي يظهر غلافه في الصورة صادر عن دار ناريمان وموجَّه الى من يقرأون . هو كتاب مميز فبالرغم من ان ورقه فاخر وغلافه جاذب ، عنوانه يقول : يمنع اقتناؤه الا بعد قراءته .
أوَّلُهُ روايةٌ شعرية مكثّفة ، عنوانها ” الى رجل يقرأ ” وآخره ديوانان من الشعر ، واحدٌ من الشعر العامودي المقفّى المطابق لمواصفات الأوزان الخليلية ، وآخر من الشعر الحرّ المنتسب الى أوزان الروح وموجات الخيال ورجع الصدى في سيمفونية الحياة الشرقية الممرّغة بألف معاناة وألف علّة .
مئة وثلاثون صفحة ، كل سطر فيها برقية سرّية عاجلة ولو انها منشورة في كتاب . وكل جملةٍ حِكمةٌ أو عِبرة لا يفهمها الا الذين يقرأون ، فالكاتبة تخاطب قُرّاءً ولا تخاطب مستمعين او مُمالئين او مُصفقين او مُقلدين . وكأنه مكتوب في الصفحة الاولى : لا يمكنك ان تقرأ هذا الكتاب بعينيك دون عقلك .
اتفقتُ قبل مدة مع روائية صديقة على كتابة رواية شعرية مشتركة تكون عبارة عن قصيدة طويلة تضم حواراً بين بطلٍ وبطلة . وما زلنا نتوافق على التفاصيل .وإذ بكاتبةٍ مقدامة تسبقنا الى كتابتها ( دون معرفة بما كنا نخطط له )، ولو بموضوع مختلف ، فقد أنطقتْ ناريمان علوش قلمَها بلسانين اثنين وكتبت بمفردها الرواية القصيدة بنَفَسٍ شاعريٍّ مُحبّب ، كل كلمة فيها حكمة او خلاصة تجربة ، فيها تكثيفٌ غني وجاذب مع انه لا يترك للقارئ فرصةً لالتقاط الانفاس حيث الأفكار شلال يتدفق والأحداث تتسارع على امتداد حروف الأبجدية ، ولو ان الملعب ضيّقٌ ، مساحة مقهى مخصص للرجال .
تستعين الكاتبة بأحلام النوم المباحة كي تُظهِّرَ أحلام اليقظة المُحرَّمة وتستعين بأحلام الليل كي تُقرِّعَ شواذات النهار المحيطة بكل كائن شرقيٍّ في بلاد الشرق ، فما دام المجتمع موارباً لا بد من الطعن ببعض احكامه ولو مواربة. ولا بأس في بناء القوالب الفنية التي لا تخترقها آذان الوشاة وعيون المراقبين … وهل يختلف مجتمعنا كثيراً عن ذاك الذي أعدم الحلّاج وعن ذلك الذي أجبر ابن المقفع على اختيار ابطاله من صفوف الحيوانات ؟!
ناريمان علوش مثقفة ممتلئة تتقن فن الحوار وقد حافظت في كتابها على رقيّه وعمقه ومتانته رغم امتداد هذا الحوار صفحاتٍ طويلة، وهي فنانة في اختيار العبارات المتماهية مع ظروف اللحظة وبأسلوبٍ مُشوِّق وجذاب .
لم تتسع مساحة الرواية التي ارادتها الكاتبة شعريّةً ومقتضبة لكثير من الابطال وكثير من الاحداث ، فمن شأن ذلك ان يُؤثر على بريقها وتمايزها .ولو كانت مساحة الكتاب معدة للرواية دون الشعر لاستغنت الكاتبة عن بعض التكثيف في الحروف واحتفظت بتكثيف الافكار والرسائل .
ولأن الحوار في الرواية كان دسماً فقد شكّل حبسُ الانفاس ضغطاً قد يجرُّ القارئ الى البحث عن استراحته في افياء قصائد الجزء الثاني من الكتاب .
ولأن موسيقى أشعارها جميلةٌ جداً يُخشى ان يؤثر ذلك على همة القارئ ، الخارج من الصدمة الايجابية في خلاصة الرواية ، في متابعة البحث عن الافكار التي تختزنها القصائد .
كتاب ناريمان علوش ” الى رجلٍ يقرأ ” قاموسٌ يجب ان يحفظ مفرداته العاشقون عن ظهر غيب ، و” أَلْبومُ ” أغانٍ يجب ان يرتّلها المغرمون ، فمفرداتها منتقاة بعنايةبالغة ، وأفكارها دافقة كينابيع المياه المعدنية الشافية . أما أشعارها فتشبه سحرَ عينيها .
ناريمان علوش جمعتْ الى الجمال أنوثةً ونضجاً وعمقا وعفّة ، وجمعت الى جمال الحرف جمال الروح وروحَ الإلفةوالصداقة وغدت كخلية نحل فاعلة تحوِّل ما جمعتْ الى شهدٍ وعسل .