كانت المرة الأولى التي اكتشفَ فيها سطوة الشعر وسحره حين كان في الرابعة من عمره حيث قال بعفويّة:
Le grand papa est vilain, il a vole’ mon Petit pain.
ضحك الجميع لأن الجملة التي قالها مقفّاة فأعفاه ذلك من صفعة كانت امه قد ضربته بمثلها سابقا بسبب جملة مشابهة تلفّظ بها لكنها لم تكن مسجوعة، فعرف حينها أن الشعر هو من تشفّع له هذه المرة، وهنا ولدت نطفة النرجسي في نظرته لنفسه ونمّاها نظرة المحيطين به إليه لكن تلك النرجسية الطفولية تحطمت حين اصطدمت بمرايا الغرباء. ومع مرور الأيام بدأ يستلهم من قصائد “إلوار” و “نيزفالك و” بيبل” ملامح قصيدته الأولى، ومن جسد” ماغدا” الذي تصوغه لغة الماء تمتمات شهوته الشعرية الغير ناضجة والتي استوت سلطتُها المقدسة بين ذراعي أمّه حين لجأ إليها باحثَا عمّن يضم موهبته ويثني على محاولاته الشعرية الأولى.
وبينما كانت أمه تبحث عن انوثتها المذبوحة في حبّها وتعلّقها بطفلها الوحيد، كان هو يبحث عن تقاسيم رجولته في ملامح وجهه الضبابية وهذا ما كان يفسّر محاولاته في الرسم حيث كانت جميع رسوماته برأس كلب وجسد بشري وبنساء عاريات مبتورات الرأس على الرغم من انّه لا يعلم شيئا عن المرأة وانوثتها إلا من خلال وجهها الذي يقدّره ويعظّمه فعرّى جسدها الذي لا قيمة له بالنسبة إليه و ألّه وجهها وأخفاه، كذلك ايضا في قصائده التي تسكّع فيها على جسد المرأة وعورتها.
ولا بدّ من أنّ الأم نقلت لابنها الشاعر كرهها لجسدها ونظرتها الاحتقارية له بسبب الخطوط البيضاء التي ترسم صرخات الولادة وتلفّ أنفاسها حول خاصرتها .
ومن الملفت في هذه الرواية أن ميلان كونديرا لم يعطِ لشخصيات الرواية اسماء عدا ياروميل و بعض الأسماء التي مرت مرورا ثانويا واكتفى بتسمية الشخصيات الرئيسة: الأم، الأب، الجد، الجدة، الأخت، المهندس،الرسام، الطبيب،الفتاة الشقراء، السمراء، النمشاء، الأربعيني…
لكنه بالمقابل كان يدقّق في التفاصيل ويتعمّق في وصف اللحظة واستحضارها وبث الحياة فيها من دون أية حواجز أو قيود.
ومن دون أن تشعر تجد نفسك متعايشا مع شخصية شاعر خجول يحاول الإفلات من الحبل الطويل الذي مدّه حب أمّه له وخوفها عليه والبحث عن رجولته الضائعة فتارة يتقمص صوت أستاذه الرسام وتارة يتأبط صورَا شعرية ويسمو معها في قيم بعيدة من الجسد والمادة، تارة يبحث عن ثقافته ورشده في اجتماعات الشباب الماركسي وفي نقاش ما عن الفن الحديث وعن علاقة الثورة الشيوعية به، وأحيانا يبحث عن نضوجه في مديح عابر من فتاة عذراء وجدت فيه الرجل الذي سيفض غشاء انتظارها للحب، وحين فشل في كل ذلك لجأ إلى جسد السياسة النمشاء حيث وجد المأوى الذي يُنضج شبابه وتستوي في أفرانه فحولتُه، فتحولت اشعاره ولغته إلى لافتات وشعارات تطالب بالواقعية والمستحيل وتدعو إلى الثورة في السياسة والأسرة والحب وتبحث عن الحياة في مكان آخر.
في الحقيقة لا يمكن لشاعر أن يقرأ هذه الرواية من دون أن يستلهم من ادبها الغني نصّا شهيا للثورة والحب والشعر، فالقائمة المميزة من الأدباء والفلاسفة والشعراء الغربيين الذين يضرب بهم الكاتب المثال ويدلّل بذكرهم روح المعاني تحرّض فيك الشاعر ليخرج منك ويجالسهم ويشاركهم في النقاشات والحوارات ويبدي رأيه في كل فكرة يطرحونها حتى تشهد لياروميل في النهاية أنه شاعرٌ شاعر. وكما قال رامبو “كل الشعراء إخوة، والأخ وحده من يستطيع ان يعرف علامة الانتماء إلى الأسرة”.
وحدها الثقافة تستطيع أن تكتب التاريخ وتخلق في داخلك روحا جديدة ثائرة على الظلم والوجع، وحدها القادرة على إشعال الضوء في أصابع الكلمة. فلنقرأ بكل ما في دواخلنا من شغف ولنكتب بكل ما في أقلامنا من ضوء❤️
ناريمان علوش