على مدى قبضتين
العميد د. محمد توفيق أبو علي
من سيميائيّة العنوان أبدأ، فأرى بعدًا دلاليًّا، مفتوح الآفاق، في سياق تضادّيّ بين قبضتين يضيق بهما الاحتمال؛ فقد تكونان:
أ_ قبضتي التّاريخ والحاضر
ب_ قبضتي القلق والطّمأنينة
ج_ قبضتي الانعتاق و المحدوديّة … وقس على ذلك، من أوجه التّضاد؛ مع الوقوف عند مفارقة في العنوان، تتجلّى في تضمّنه إشارة، على نحو ما، إلى الاستسلام للقدر، مع السّعي، في الوقت نفسه، إلى الإفساح في المجال، للفاعليّة الإنسانيّة، أن تتبدّى في صنع هذا القدر؛ في سياق يمنح هذا السّعي سمة الفوز، من خلال دلالة الاستعلاء في حرف الجرّ على؛ أي بالقول : إنّ الإرادة البشريّة تستعلي على هاتين القبضتين، وتسير بهما نحو الطّمأنينة المنشودة.
وبعد، فالدّخول إلى رحاب الرّواية، يرينا مناخًا من سرديّة، مفعمة بشعريّة لافتة، منتشرة في الرّواية برمّتها، بدءًا من الإهداء، وانتهاءً بفصولها كافّة. وسأعرض بإيجاز، تتطلّبه طبيعة المناسبة، بعض سمات هذه الرّواية:
1_ الملاحظة الأولى التي استوقفتني مليًّا، أن هذه الرّواية تمثّل استمرارًا، لنسق روائيّ، أرست الكاتبة معالمه في روايتها: “للبالغين نون النّشوة”؛ فمن حيث
أسلوبيّة النّصّ، نجد أنّها بين قبضتي الإبداع والإبلاغ، وفق ما تستدعيه تقنيّة القصّ. وهذه الرّواية التي تتّصف بالتّشويق في السّرد كسابقتها، هي أيضًا بمنزلة سيرة ذاتيّة مقنّعة، تغيّرت فيها أسماء الأشخاص وبعض الأماكن؛ وقد عبّرت أحداثها عن تجربة معيشة، مزجتها الكاتبة بضرب من الغرائبيّة اللّاهوتيّة والزّمكانيّة، يكاد يكون_ في خروجه عن المألوف_ قريبًا ممّا يعرف بأدب الخيال العلميّ؛ وهذه الغرائبيّة عينها هي التي ميّزت هذه الرّواية من سابقتها.
2_ تفاصيل الرّواية تفصح عن مكنون ما أشرت إليه، في كلامي على سيميائيّة العنوان؛ فقد نجحت الكاتبة في تحميل النّص عدّة رسائل، تتعلّق بالقلق الوجوديّ والمعرفيّ والعقديّ؛ من دون أن تقع في حفرة المباشرة الوعظيّة، من خلال إنطاق الشّخصيّات، ما يحقّق المراد.
3_ التقنية الرّوائيّة كانت واضحة للعِيان، من خلال حسن توظيف الزّمن السّرديّ، بين استرجاع واستباق، مترافقين مع “خلطة” من مزيج من غرائبيّة ومألوفيّة، ومن خيال وواقع. وممّا لفتني في هذا السّياق، أنّ الكاتبة لم تشر إلى اسم إيوان، إلّا بعد أن أصبح فاعلًا من خلال المقارنة، بينه وبين رائف؛ ففي البداية كان ” أحد السّكان” قبل أن يكتسب صفة الرّفيق، ويصبح ذِكر اسمه، ضرورة تقتضيها البنية السّرديّة.
4_من السّمات اللّافتة في هذه الرّواية، البعد الثّقافيّ الثّرّ، والجرأة في مقاربة قضايا المعتقد، في سياق يفصح عن قلق معرفيّ، تبوح بمكنوناته شخصيّات الرّواية؛ ولعلّ شخصيّة الكاتبة التي توزّعت بين كايلا وكايدي، كانت الشّخصيّة الرّئيسة؛ بيد أنّها لم تلغِ سائر الشّخصيّات، ولم تهمّشها، بل تكاملت معها، في بناء المنظومة السّرديّة، وأغنتها بحضورها وغيابها، وواقعها وخيالها.
وبعد، فالتّهنئة الصّادقة للرّوائيّة المبدعة، الصّديقة ناريمان علّوش التي كرّست نهجًا روائيًّا، يفيد من الشِّعر ولا يقع في إغوائه، ويوظّف التّاريخ ولا يقبع فيه، ويستثمر المعرفة والثّقافة ولا يبقيهما خارج التّمثّل؛ فضلًا عن إيلائه الأنا اهتمامًا لا يلغي الآخر.
والسّلام عليكم