“حين يزهر الوعي ” لكارولين شادارفيان، رسالة شفاء للنفس البشريٓة المعذٓبة .

“حين يزهر الوعي ” لكارولين شادارفيان، رسالة شفاء للنفس البشريٓة المعذٓبة .

انطوان يزبك

تأتينا المؤلفة في كتابها : “حين يزهر الوعي “، الصادر عن دار ناريمان للنشر، باستحضار شامل للمعرفة العميقة التي يقدمها علم النفس ، ودراسة منهجيٓة لسلوك الإنسان في وعيه و ادراكه ، و تاليا لما يمكن أن يصادف هذا الكائن المركٓب في الحياة من مشاكل ومعاثر وما قد يؤثٓر على صحٓنه النفسيٓة في المجالات المختلفة وتجارب الحياة .

الأستاذة كارولين في عملها المميز هذا ، تستعيد مسألة الوعي ، ومفردات تحديده ، إذ منذ ايام سقراط الذي اعتبر أن الوعي هو الذي يعطي لحياتنا قيمة ، تتعدد التفسيرات والتحديدات
فبدون الوعي والكلام لسقراط لا تستقيم الحياة ، الا اذا عشناها في كنف الحب والدهشة والتساؤل .
قد يكون الوعي وعيا لذواتنا ، لافكارنا وانفعالاتنا ومن خلال الاختبار ندرك الحقائق ، بيد أن هذه المسألة النفسية غاية في التعقيد !

لذلك قامت المؤلفة بمجهود كبير لتفكيك شيفرة الشخصية النفسية ، معتمدة المنهجيٓة العلميٓة من أجل إيضاح الغموض والرد على نظريات بدايات علم النفس التي ادرجت سلوك الانسان في عالم اللاوعي والغموض من مثل نظريات شاركو وفرويد و طبيب الأعصاب الإنكليزي الذي عاش في القرن التاسع عشر جون هوغلينغز جاكسون ، الذي قال :
” أخبرني عن أحلامك و سوف اقول لك كل شيء ، عن الجنون “.

على ما يبدو أن الكاتبة كارولين تريد في كتابها هذا الردٓ على كل ما كان سائدا في اروقة علم النفس المعتمة سابقا ، و تأسيس علم نفس جديد نظيف و مفيد ، قائم على الوضوح والبساطة بدليل ، أن في العالم حاليا وفي صفوف علماء النفس من ينتهج النهج عينه ،في توصيف شامل للسلوك البشري بمنطق الوعي والفهم من أمثال باتريك ولتينغ في مؤلفه الشهير pensée du sous-sol
حيث تتم مقاربة علم النفس من خلال فهم الوعي ومن ذلك ربطه بالمسائل الأخرى كالفلسفة وغيرها !!

إن هدف الكاتبة من البداية توسٓل كل ما هو مفيد بعيدا عن الاشكاليات العقيمة والتي لا تحلٓ المعضلات والازمات التي تواجه الإنسان، وتسعى إلى تقديم العلاجات والنصائح : في الغذاء الروحي والنفسي والجسدي، كذلك تتطرق كارولين إلى المعايير الصحيحة التي تحمي الصحة النفسية وتحميها من الانزلاق في دياميس الأمراض والانهيار الكليٓ للشخصيٓة الانسانيٓة ففي ذلك الدرك الذي يقارب الحضيض لا عودة ولا ترميم ولا شفاء ولا خلاص !!

من الملفت في هذا الكتاب أن المؤلفة تخاطب القارئ بشكل مباشر وكأنٓها في عيادتها تخاطب مريضا ، اذ في نهاية كل فصل او فكرة تكرر كارولين كلمات من مثل :
لا تخف لا تجزع، لا تيأس …وهي بذلك تظهر كم أن روحها فيٓاضة بالمحبٓة والإنسانية تجاه اخوتها في الانسانية الناس المعذبين، مقدمة لهم جرعات من الأمل والاشراق ونفحات من الكلمات المعزيٓة والمقويٓة في زمن الضعف والانكسارات .
هذا الكتاب جامع لكل ما يفيد القارئ ، فيه العلوم والنصح والتوجيه والمعرفة والثقافة ، كما يذكرني بمقررات سنوات التخصص في علم النفس، مقررات جامعية دسمة بالمعلومات لما فيه من وفرة في الايضاحات وإحاطة و معلومات تلقينية، وحين تفرغ من مطالعته تشعر انك درست على محاضر ماهر عميق خبير ومثقف !!

ذروة الكتاب

محتوى الكتاب كما أسلفت، عميق و شامل وكل مافيه مفيد ، بيد انني أحببت وصف الدكتورة كارولين لما يعرف (بالشخصية المستترة ) ،وما أكثر الناس في حياتنا من أصحاب هذه الشخصيات وهم الذين وصفهم السيد المسيح بأنهم يرتدون اثواب الحملان بينما هم من عشيرة الذئاب الكاسرة ، يتصرٓفون بقداسة علنية في المحافل و امام المجتمع وكأنهم ملائكة اطهار، وهم في حقيقة سريرتهم من أفظع الحاقدين المعقدٓين الاشرار النرجسيين ولا حاجة لكي استفيض شرحا عنهم ، لأن الجميع عرفهم وادرك من هم .
وصفت الكاتبة شادارفيان هذه الشخصيٓة بدقٓة بالغة تخطٓت كل ما نعثر عليه في كتب علم النفس ، لدرجة نشعر معها ، و كأنٓها عاشت تجربة قريبة للغاية من هذا النوعم من الشخصيات ، انسان من صنف هذه الشخصية المستترة ، عرفته الدكتورة في حياتها الاجتماعية العائلية المهنية أو الشخصية ، فزادت خبرتها على خبرة و براعتها في توصيف هذه الحالة على براعة ، كما اتحفتنا بهذا التدقيق العلمي الكافي الوافي مثل جهاز السكانر الذي يفضح أدقٓ التفاصيل …

وايضا حين ندرس الشخصية النرجسية و آليات الدفاع عن النفس، نصل إلى خلاصة مفادها ان الشخصية البشرية لم تعد مبهمة بتاتا كما يحلو للكثيرين أن يظهروها لنا ، وكما يريد العلم ان يفعل بطريقة فوقية و تبجٓح مستعاد !
من خلال مطالعة انواع الشخصيات التي قدمتها لنا كارولين ، لا بدٓ لنا من أن نعثر على سمات متناثرة من شخصيتنا هنا وهناك في كل واحدة من انواع الشخصيات التي شرحت في الكتاب ، هذا هو الإنسان الكائن الذي وصفه العالم أليكسيس كاريل بالمجهول ، لم يعد مجهولا ابدا بالنسبة للمؤلفة متى استطاع العالم النفسي تفكيك عقد الشخصيات وأسرار امراضها من خلال معرفة دقائق تصرفات الإنسان و أسراره المخفيٓة تحت تاسع ارض كما نقول في التعبير المحلي الشائع !!

ختاما اقول ان الكتاب الذي بين ايدينا هو كتاب ممتع و مفيد للغاية ، يقدٓم لنا الحقيقة ببساطة ولكن بعمق واحتراف ودقة ومعرفة آتية من خبرة و تأمٓل و طول أناة . كما تبوح لنا كارولين بما هي عليه من طيبة ومحبة ونخوة و ارادة لخدمة الإنسان و تتعاطف مع المريض والقلق واليائس البائس لأن من يعاني من أمراض نفسية يشعر انه متروك من الجميع .

تبقى رغبة كارولين الكبرى في شفاء كل الناس مهما كانوا واينما كانوا على وجه الأرض بدون استثناء .
وكل ذلك يحصل و المؤلفة في وحدتها تعيش فرح البقاء في لحظة تأمل وسكون تجاوزي ، و دهشة كبرى امام عظمة الكون والوجود مرددة مع الكبير فكتور هوغو :

المدى يقول الكائن
الأبدية تقول الروح !!