ظهر أثر التّفاعل الحضاري الّذي تمّ خلال قرون طويلة بين الشّعوب في الأدبين العربي والفارسي ، ويعدّ هذا نموذجًا متميّزا على المستوى الإنساني في مجال التأثير المتبادل والمثمر بين الثّقافات البشريّة .
يتميّز د. طراد حمادة في كتابه بروح المعلّم التّواقة إلى تفتّح العيون والقلوب والعقول على آفاق جديدة من المعرفة . يتجه بشعره لنزعة تجديديّة مدرسة موحّدة ما بين الشّعر العربي والفارسي بإدخال
بعض الرّموز ، البلبل يترجم أشواق الوردة ، إذ تمثّل الطّيور دور الصوفيّين كما ورد في كتاب فريد الدّين العطّار “منطق الطّير “.
لقصّة البلبل
مع السّرو سرّ شيراز مدينة الأولياء والشّعراء وسرّ شاعريها العظيمين حافظ الشّيرازي وسعدى الشّيرازي ، فالشّعر تاج وجدها وحقيقة روحها وحضارتها .
تمثل رمزيّة الشّجرة مكانة كبيرة ذات تاريخ قديم .
مدينة شيراز تشتهر بالحدائق والزّهور مدينة الجّمال والتّاريخ .
وقد ذهب إلى معنى التّرجمان الشّيخ الأكبر محي الدّين بن العربي في كتابه” ترجمان الأشواق “
ترجم الشّيخ الأكبر أشواقه لنظام بنت الشّيخ أبي شجاع الأصفهاني ، ونقل د. طراد أشواقه لمدينة شيراز بواسطة بلبل السّرو .
بدأ الشّاعر قصائده بواحدة حملت اسم الكتاب قال : إيه يا بلبل السّرو / غناؤك الدّليل إلى الوردة / وهي تفتح نوافذ العطر / على منازل النّهار/ ص ٨ في ثنائيّة البلبل والوردة كلّ ما
في الكون يتحرّك بالعشق ، والعلاقات بين الكائنات هي علاقة عاشق ومعشوق . البلبل في تغريده ينشد ترانيم روحيّة يدعو فيها إلى الإمعان في جمال الزّهرة وما تشعّه من نور ، لنقرأ في هذا الجّمال درس التّوحيد .
عمري أغنية/ حجازيّة العزف /وحدائقي شيرازيّة التّرجمان / ص ١٠.
يؤكد الشّاعر على تمسكه بأصله العربي ، وإعجابه الكبير بشيراز وحدائقها وغناها التّاريخي والحضاري . جمع في قلبه حُبّين .
في قصيدة “منزل العاشقين” يقول : أفتحُ لكِ الباب / دارتي منزلٌ للعاشقين / حدائقي صادحةٌ / بأسرار العشق / ص ١٣ . في الأدب الفارسي تنتشر كلمة عشق للتّعبير عن الحبّ . العشق في الأدب العرفاني هو خروج الإنسان من ذاتيّته وأنانيّته لينطلق في رحاب الجّمال والحكمة ، والعلم ، والرّحمة المُطلقة .. وهذا العشق يجعله يشعر بطاقة عظيمة تملأ
وجوده .
في قصيدة “إفتح الشّوق لشيرين ” يقول : وألقى وأنا أبحث عن صاحيتي/ فرهاد وحيدا / يلقاني وقد يحسب أنّي قيس / ولكنّي لست بقيس / ص ٢٠ ارتبط الغزل بإرث ثقافي عميق الجّذور ، نرى نماذجا للامتزاج الحضاري والثّقافي بين الإيرانيّين والعرب في مظاهر الوحدة لقصص الحب الحقيقيّة والرّمزيّة من معاناة النّوع العذري سيرة قيس وليلى عند العرب وفرهاد وشيرين عند الفرس قصّتان تمثّلان الإخلاص والوفاء لحبيبة واحدة حبّ روحيّ لم يكتمل يُظهر تشابه حالات البشر ولكنّ الشّاعر يقول لست بقيس لعل قيسًا واحد لن يتكرر ..
في قصيدة “بستان ليلى “يقول : حيرتي مصنوعةٌ / من وجد ليلى / ولها أن تصنع منها / ما تشاء / ص ٢٣ آخذك إلى / اليقظة / ما ينفع النّوم في اللّيل / وقد طاب السّهر / ص
٢٥ ليلى أشهر اسم عربي للدلالة على الحبيبة ، سلّمها أمره لأنّها موضع الحبّ والشّوق ، يدعوها إلى السّهر الجّميل ، وكما قال عمر الخيّام في رباعياته فما أطال النّوم عمرًا ولا قصّر في الأعمار طول السّهر .
قصيدة “في شيراز “يحبّ الشّاعر المدينة مرّتين : لحقيقتها كمكان رائع هي هضبة الرّوح ، ولتاريخها المجيد ، يُصغي لموسيقى وجهها يراها بالعين والخيال .. كأنّ شيراز صارت شيرين ، أنسن الشّاعر المدينة فأصبحت الحبيبة .. وهذه الأنسنة رأيناها عند شعراء آخرين .
“الدّرويش يقصّ حكاياه “ص٣٣ يقول : أودع ما طاب من / الأنغام ، على قيثار / الكون وانظر رقص الرّيح / ينظر الدّرويش بشكل مختلف إلى أمور الحياة فهو الزّاهد عاف كل شيء وراح يعزف الأنغام على قيثارة الكون ويُشاهد رقص الرّيح ويسمع أشعار البلبل ..
في قصيدة ” أحوال “ص ٣٥ لم يتعلم العاشق العارف سوى عشق جمال الحبيب ، والعشق فطرة وحياة ، منهم من نهجوا طريق العقل ، وآخرون طريق العرفان . يزدحم صدره بالمشاعر النّبيلة التي تدفعه نحو الكمال ، فهو لا يستسلم بل يسعى نحو الجّمال المطلق
لا شغل للعارف / عند العشق / متى يبلغ فيه وصاله / حتى لا يعرف / وهو يدور على / المعشوق / في أي مقام / تندرج حاله/ ٣٥ حاول مخالفة الشّيخ ولكن الصحبة سكبوا له من إبريق الشّيخ ..حتى رأى/ الحانة / يكسوها ضياء / ورأى سماء / يتوسطها قمر عاشق / ص ٣٦ . عند الصّوفيّين كما يقول الغزالي يحتاج المُريد إلى شيخ يقتدي به ، ليهديَه إلى سواء السّبيل ، لا يخالفه في وِرده ولا صدره . يظهر تأثّر د. طراد بالصوفيين في معظم كتبه .
في موضوع الوجود الذي شغل اهتمام المفكّرين والفلاسفة والشّعراء منذ زمن طويل
يقول : لا تعريف للوجود/ وإنّما أقصى الاجتهاد / الإحساس به / في الواقع وفي الحقيقة / ص ٤٠ لا يوجد تعريف محدّد يحيط به ويصف جوهره . وفي قصيدة “حركة جوهريّة “ص ٤٨ يرى أن لا عمر للزّمان لا يكبر ولا يشيخ التجدّد ريعان الشّباب ، الحركة قياس الزّمان ؛ الوجود الزّماني / مطارح الأقدام العابرة / والزّمان الوجودي / مرآة الوجود النّاضرة / ص٥٦ يمضي الزّمان بالبشر ويبقى نضرا شابّا ليواكب الأجيال القادمة . في قصيدة ” العرفان يصنع روحا “ص٦٢ يتحدث عن المرأة ، الرّجل ، الأرض والسّماء . ما الّذي تقوله / للمرأة ، حين تعرف / أنّ في روحها من / خبز المعرفة ، ما يكفي مجمع عشّاق على / مائدة الحبّ / .. المرأة رمز لجوهر أنثوي ، أُشرب طبيعة إلهيّة مبدعة ، والشّعر الصّوفي العشقي ، قيمة إبداعيّة ، جماليّة وميتافيزيقيّة . .ما الذي تقوله للرجل حين /
تسمع أنفاسه / في ترنيمة تسبيحه / ما الّذي تقوله / للأرض / أو للسّماء / غير الّذي يقوله / الأنبياء /.. تربية الذّوق الجّمالي هدف كل الأنبياء والمُصلحين ، يدفع الإنسان للحركة نحو الجّمال المُطلق .
في قصيدة ” صفيري صوت يوسف” ص ٧٣ يقول : بوحي بسرّ العطر لأغنّيه / البّوح ، السّر ، العطر والغناء الهمس يتحوّل عطرًا يُشمّ وشدوًا يُسمع .. تأمّل !! ..
في قصيدة “شاعر النّفس والجّسد” ص ٨١ يقول : أنا شاعر النّفس والجّسد / من يوحي لي في عالم الخيال / جعلت لساني ترجمان لغات / أسوّي العبارة لغة الإشارة / وأصنع من التّمثال / صور الجّمال/ كوني أيقونتي / أكن شاعرك العاشق / لا انزياح في لوحتي بين الأصل والظلّ / بين سحر فرشاتي / وقعر المرايا / المرأة عند الشّاعر أيقونة أعطاها قدسيّة منزّهة لتكون مصدر الوحي والشّعر ،أذ
لا بدَّ للشّاعر ممّن يحرّك خياله ويُغني تجربته ليكتب العشق قصائد لا يُخالف فيها الأصل ففي الفلسفة يرى أفلاطون أنّ الإنسان ينظر إلى الجّمال الأرضي فيذكّره بالجّمال الحقيقي ، يشعر عندئذ بأجنحة تنبت له وتتعجّل الطّيران ، ولكنّه لا يستطيع ، فيصوّب نظره إلى الأعلى ويهمل موجودات الأرض ..
يا حيرتي / عادت إليّ هوايتي / أصغي إلى غزل البلابل / والوردة الحمراء ٨٦
يظهر في هذه القصيدة تأثر د. طراد بحافظ شيرازي الّذي قال : ” إنّ البلبل تعلّم الكلام من فيض الورد ، وإلا ما كان كلّ هذا القول والغزل معبّأ في منقاره .” تقول الأسطورة بقطراتٍ من قلبه ، سقى البلبل الوردة الحمراء .
بعد قراءة الكتاب نشعر أنّنا في حديقة ربيعيّة من حدائق شيراز . من حيث الرؤيا والمضمون ، نشعر بمتعة الرّوح والنّفس ، مع شاعر تحرّر من الذّاتية لأنّ من كان حبيسها كما قال حافظ
شيرازي لا يفهم العشق وأسراره ، لأنّه فطرة وحياة . في أسلوب الكتاب عشق ، صفاء ولطف ، الموسيقى الداخليّة تُطرب القارئ كصوت البلابل التي تصبح هواية عند المنذور لكتابة الشّعر وبوح القصيد .
كأنَّ القدر شاء التّشابه بين سيرة سعدى الشّيرازي ود. طراد حمادة قال سعدى : كلّ أفراد قبيلتي كانوا معلّمين في الدّين ، ومعلّم العشق علّمك أن تُنشد الشّعر “
الأدب في حياة الشّعوب يُحافظ على الذّوق البشريّ من الانتكاس ، وعلى المعنويات الإنسانيّة من الارتكاس . وكما ورد في الكتاب الشّعر هو الصديق والدّليل إلى الخلاص . ص٨٥
للثقافة الفارسيّة نصيب من التأثير في بلاد الشّام ، العلاقات التاريخيّة العميقة إضافة إلى العامل الدّيني وحركة التّرجمة قدّموا لنا عمق الرّؤيا الشّعرية وربط الفكر بالتّأمل في مظاهر الكون والطّبيعة ما من شأنه أن يعزّز في
الإنسان قوّة الملاحظة والتّفكر ورهافة الحس وتنمية الذّوق كل هذا صاغه بأسلوب رمزي دلالي ليؤكد انفتاحه الفكري والحضاري على ثقافات الشّعوب من خلال كتاب : ” بلبل السّرو شيرازيُّ التّرجمان”.
فاتن مرتضى
كاتبة وناقدة لبنانية