“على مدى قبضتين “رواية ناريمان علوش الجديدة : السفر عبر الزمن ونزهات الروح بحثا عن حرية الأنثى!
انطوان يزبك
يقول الروائي الايطالي الكبير امبرتو ايكو في مقابلة مع الصحافة الأدبية :
“كل رواية هي في الحقيقةبوح يتناول شيئا من سيرة الكاتب الذاتية ، بطريقة او بأخرى “!
في رواية ناريمان علوش الجديدة : “على مدى قبضتين”؛ نشعر أن ما قاله امبرتو ايكو ليس غريبا او بعيدا من التصديق ، لا بل نعثر على بصمات واضحة للكاتبة في كل الرواية ونشعر أن ما كتبته ليس نقلا عن أحداث و مرويات بل هو امر حصل معها بالفعل !
وتتضح لنا صدقية مقولة امبرتو ايكو كلما تقدمنا في قراءة الرواية . حتى ولو كانت سمات تلك الشخصيات متخيلة والأفكار على وفرتها تبدو لنا مختبئة بخجل حينا و بوضوح شديد في مناسبات عديدة نكتشف نفحة الحياة التي ارادت ناريمان أن تبثها في تضاعيف النص ، إذ تبدو افكار الكاتبة واضحة من خلال التماهي بينها وبين بطلة الرواية: كايلا !
واكاد اقول أن كايلا هي توأم ناريمان المستنسخة على صفحات الرواية : في مشاعرها وأشواقها وحبها للبطولة النسوية الخالصة وطاقاتها المتفجرة مثل براكين افريقيا على سواحلها الغربية .
تحمل هذه الرواية في ما تحمله طاقة هائلة من شحنات وافرة و كبيرة من الحب والوطنية والاخلاص لأرض الأسلاف بغية الانتصار والظفر في خنام احداث الرواية .
لقد ارادت المؤلفة ،أن تصل الى نهاية سعيدة على عادة روايات الثورة في الادب الماركسي الواقعي حيث ينتهي التاريخ على خاتمة جميلة بعد ان اعتراه الزيف والتزييف وعمل كثيرون من شياطين الأرض والجحيم على العبث به وسوق البشر الى الهلاك.
الرواية هي بحد ذاتها دفق شعري و رومنسي حديث، انتصار الواقعية على الرمزية الباهتة وانتصار الحب على الكراهية !
تعيش البطلة كايلا في هذه الرواية ؛ مغامرة لا مثيل لها في زمن غير الزمن الحالي في فصول رواية قد تكون فانتازيا شيقة ، مزيج من الخيال العلمي والواقعية السحرية réalisme magique المكون الحتمي لأحداث رواية ديناميكية مركبة من تقنيات مشهدية تليق بأن ترتقي الى مصاف افلام السينما من ذوي الانتاجات الكبرى .
في هذه الرواية المشهدية بامتياز نرى الاحداث تتوالى بسرعة ، حيث تقدم لنا المؤلفة مادة قصصية دسمة تجمع الترابط الحيوي في سياق شريط الاحداث الزمني المعلوم ، الى ذلك المزج الحثيث بين افلام الحركة “الثريلر” والخرافة التشويقية، اضافة الى حشد من الشخصيات البارزة والمعلومات التاريخية والسياسية في منطقة الساحل في أفريقيا الغربية .
تبدأ الرواية مع كايلا و زوجها آرام، ثنائي متناقض في كل شيء ، كايلا تحب المغامرة عكس زوجها ، هي دقيقة الملامح اما آرام فهو ضخم البنية مفتول العضلات باختصار كايلا وزوجها على طرفي نقيض .
نكتشف مع كل صفحة ،حبكة ذكية تنقل لنا تداخل الواقع بالخيال، والمنظور باللامنظور ، الدين بالسحر خاصة سحر (الفودو ) الذي يوازي سحر “الكتيبة ” في بلاد الشام. والفودو كما هو معروف هو سحر أسود يتعامل مع الاموات وهو من اختصاص الأفارقة بامتياز وقد توارثوه من آلاف السنين .
في بداية الرواية تفتتح الحركة السردية المتنامية أبوابها ، بمشهد لاهث و محفز إذ تسقط كايلا في بئر عميقة ،كما حصل في رواية “أليس في بلاد العجائب” للكاتب الإنكليزي “لويس كارول “اذ تسقط أليس وهي تلاحق الأرنب في الحديقة ، في حجر الارنب الموجود اسفل شجرة باسقة ، فيأخذها نفق عامودي الى عالم سحري غريب وتبدأ الرواية .
هكذا حصل مع كايلا لتنتقل الى عالم من” الفانتازيا الواقعية ” اذا صح التعبير، وحين تصل قعر البئر تجد نفسها وقد انتقلت عبر الزمن الى القرن التاسع عشر تحديدا ! .
وهي تهوي في قناة البئر نشعر أنها سوف تولد من جديد و تذكرنا برحلة الجنين الذي يعبر قناة الولادة من الرحم الى الحياة، وهذه المرة تسقط كايلا من رحم الوجود الى أفريقيا الماضي ، القارة السوداء التي تحمل كل اسرار الكون والوجود ، فتولد في خضم الصراعات التي كانت سائدة في ذلك الزمان من بداية عصر الاستعمار : حرب تدور بين الأفارقة والمستعمر الأوروبي ، الذي يسعى الى استعباد السكان الأصليين الأباة الاحرار ، وسكان افريقية بين بعضهم البعض. والاوروبي المجرم النهم غير عابئ بما يحمله هذا الشعب من تراث انساتي رفيع على منكبيه ، ذلك أن العلم الحديث قد اثبت أن البشرية كلها قد بدأت من ملايين السنين في أفريقيا !.
لذلك نشعر أن ناريمان علوش تعمل على استنباط جذور البشر في هذه القارة المليئة بالالغاز ، كما تحرص الكاتبة في هذه الرواية على تبيان الكثير من الرموز والتاريخ والمحطات السياسية التاريخية المهمة ، إضافة إلى علم الاناسة وطباع الإنسان في الحب والطمع والجنس والاغواء . كذلك تبرز شخصيات متعددة كمثل الحكيم مرداس الذي يذكرنا إسمه بشخصية الحكيم مرداد في رواية الكاتب ميخائيل نعيمة ، الحكيم مرداس هو شخصية شامانية نصادفها في كل العصور، وحده الرجل الحكيم العارف بالعلوم الماورائية المستغلقة يمكنه أن يعيد الاستقامة الى أحداث التاريخ التي تبلبلت مع سفر كايلا الى الزمن الماضي بفعل سحر ما او شعوذة ، لكن سوف يتبين لنا أنها ذهبت في مهمة محددة من أجل إحلال عدالة معينة ،ومن اجل إظهار قوة الأنثى ودورها و طاقاتها من خلال جيش من الامازونيات المحاربات ،إذ يبدو أن ناريمان معجبة بصورة المرأة المحاربة، وتتمنى لو ولدت في زمان الامازونيات لتكون في عديد فرقها المقاتلة ! .
يقول الكاتب هاروكي موراكامي :
دع النور يدخل إليك و يذيب برودة قلبك. هذا هو مغزى أن تكون قويا.
هكذا ارادت ناريمان علوش أن تكون روايتها ؛ رحلة ابتغاء النور واذابة جليد الروح من أجل أن تستعيد كل امرأة قوتها بعد أن فقدتها في ظل وصاية رجل ما ، أكان زوجا ام حبيبا !
إنها فعلا رحلة رد الاعتبار الى المرأة من خلال الغوص في الماضي واحداثه الخطرة ..
وعلى فكرة ليس السفر عبر الزمن بالأمر الخرافي ففي ظل اكتشافات الفيزياء الكمية ونظرية اينشتاين حول الكوانتوم والزمن والفراغ ، لا شيء مستحيل!
يقول برتراند راسل :
قد يضع العلم حدودا للمعرفة لكنه لا يجب أن يضع حدودا للخيال .
هذا ما فعلته ناريمان علوش في هذه الرواية التي تشكل طليعة روايات قادمة و بظني أن من تستطيب له غوايات الرواية لا يعود يفكر بشيء آخر فلا قيود ولا سدود بعد الآن في وجه الخيال كما قال برتراند راسل ، ولا خيال يبقى محصورا في فضاء اللامعقول فالخيال يمعن في خياله حتى يتحول إلى حقيقة دامغة كما كان يقول رولان بارت الناقد الفرنسي والفيلسوف الكبير .
“على مدى قبضتين “رواية معاصرة في الشكل والمضمون، اخذت من تحديات الرواية الحديثة الشيء الكثير حتى تتحاشى السرديات المملة ذات الموضوع الواحد والمسار الواحد والخاتمة الواحدة و تركت تساؤلا على شكل لغز وكلمة سحرية ينطق بها الساحر : ( تشا تشا ) الذي ينفذ وصلة على المسرح ويخلب عقل الفتيان والفتيات : وكأن الثنائي كايلا و آرام سوف يواصلان مغامراتهما في روايات جديدة وبلدان وقارات أخرى جديدة مغلفة بالاسرار والالغاز، تخبىء لنا الكثير من المفاجأت والانجازات والمغامرات .