بين القبض والبسط في رواية “على مدى قبضتين” لناريمان علوش
أ.د درية فرحات
إنّ دراسة الرّواية تحفّزنا أوّلًا لنقرأها عبر عتباتها النّصيّة، وأول عتبة هي عتبة العنوان “على مدى قبضتين”، الذي يتكوّن من ثلاث كلمات يربط بينها الجار والمجرور والإضافة، وفي الإضافة ربط اسمين أحدهما بالآخر على وجه يفيد تعريفًا أو تخصيصًا، فما هو هذا التّخصيص الذي تنشده الكاتبة في روايتها، وما سيمياء اختيار العنوان.
من الملاحظ أن العلاقة القائمة بين كلمتي العنوان هي علاقة تعارضية تقوم على الاتّساع والانقباض، فالقبضة لغويًّا هي ما تقبض عليه من ملء كفّك، والمراد في ملكه وحوزته وتحت سلطانه، وقبضت الشيء قبضًا أخذته، والقبض خلاف البسط، والمدى هو غايته ومنتهاه بلوغ أقصى مداه.
فأي قبضة تبحث عنها الرّواية، وإلى أي مدى تريد أن تصل؟
تعيش الرّواية زمانين، الزّمن الأوّل هو الحاضر وقد حدّدته الكاتبة في الثالث من يوليو 2023، والزّمن الآخر هو في الثالث والعشرين من مارس من العام 1860، لكن الفضاء الجغرافي هو نفسه أي أفريقيا بين توغوفيل ومملكة داهومي التي هي بنين حاليا.
في الزّمن الحاضر نعيش مع كايلا وزوجها آرام في رحلتهما الأولى إلى توغوفيل، وفي هذا الحاضر نرى المدى الواسع بين الزوجين، فلكلّ منهما اهتمامات وميول ورغبات وطموحات وأهداف مختلفة، وتقرّ كايلا بهذا الأمر حتى أنّهما يختلفان في الشّكل والمظهر.
وإذا أقرت كايلا بهذا الاختلاف لكنها لا تنفي أنّ سرّ الخلطة الغريبة في شخصية آرام المتمردة وفي قسوته الحنون، لهذا فهي تنعم بقبضة آرام لاعب الملاكمة، مع أنّ هذه القبضة قد أدمت خصومه.
وهذا الخلاف بينهما يقود كايلا إلى الدّخول في مغامرة تأخذها إلى عالم آخر، يعود إلى زمن بعيد، ولعلّ هذا ما جعل الكاتبة في عتبة الإهداء تهدي روايتها إلى “الأرواح الخالدة التي تتعرّى من جلدها ولونها لتزهر من جديد على مرّ الأزمان والأحلام”.
هنا تبرز الحيلة السّرديّة التي نقلتنا فيها الكاتبة عبر الراوي السّارد إلى تاريخ كبير لهذا الفضاء المكاني الذي تحدّثت عنه، فكان استخدام التّقنيات السرّديّة الزّمانيّة أي الاسترجاع Flash Back، وعبر هذا الاسترجاع إلى العام 1860 نعود إلى عالم أفريقيا وأزمة العبيد وكون هذه القارة السوداء هي منبع تجارة الرّقيق، ولم تكن هذه العودة إلّا عبر الباب الذي رأى مرداس أنّ على كايلا أن تقتحمه وتعيش المغامرة على مداها الواسع.
ولا يفوتنا أن نعود إلى العتبات النّصيّة، ففي التّقديم الذي صدّرت ناريمان علوش به روايتها تترك لنا الباب مفتوحًا بعد خروجها من مملكة التّاريخ، لعلّنا نستقي منه العبرة والموعظة.
هذه المغامرة تقودنا إلى فكرة الصّراع على السّلطة، وحبك المؤامرات للوصول إلى الملك والقبض على السّلطان، لهذا بتنا نرى الغدر هو سمة هذه المؤامرات فالابن يغدر بأبيه والزوجة تغدر بزوجها.
ونعيش في الرواية بين العودة إلى التّاريخ وسرد ما فيه من حقائق وأخبار وبين الحاضر مع آرام وصديقيه يقدمون لنا آراء حضارية فكريّة ثقافيّة، فيها الحديث عن مفهوم الحريّة والاستعباد والعدالة والمساواة، والاختلاف والتّقارب، ومع هذا كلّه نعيش مع مفهوم الخرافة والشّعوذة، في مواجهة اليقين والحقيقة، وهل يمكننا أن نلجأ إلى الشّعوذة للوصول إلى اليقين، وكيف يمكن لبعض الحضارات أن تعتمد على الخرافة في بناء كينونتها.
وفي كلّ ذلك نرى أنّ الكاتبة ناريمان علوش تبني روايتها على عالم عجائبيّ وكما يذكر الدّكتور حمداوي فإنّ الأدب الفانطاستيكي/ العجائبي يستند إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السّببية وتوظيف الامتساخ والتّحويل والتّشويه ولعبة المرئي واللامرئي، من دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسيّة وعالم التّصوّر والوهم والتّخييل.
ولم تكن علوش في عملها هذا بعيدة من تقديم رؤية أيدولوجيّة تاركة للرّاوي أن يسرد لنا الحكاية، وكانت البراعة في تعدّد الأصوات في الرّواية فبين الرّاوي العليم وكايلا التي روت لنا بضمير المتكلّم وبين آرام تتّضح الأحداث في قالب مشوّق يأخذنا إلى عوالم فنيّة بإتقان لغويّ مستخدمة السّرد والوصف والحوار.
وإذا سكتت شهرزاد عن الكلام المباح عند شروق الشمس فإنني سأسكت أيضا عن الكلام المباح بعد ان وصلت إلى الدقائق الخمس وكما تركت شهرزاد حكايتها عالقة في أذهان المتلقين يغوصون في أعماق مضامينها أترككم مع “على مدى قبضتين” تنقبون عن دررها، وألف مبارك لك ناريمان علوش كاتبة وألف مبارك لدار ناريمان هذا الإنجاز.