كلمة الشاعر والإعلامي حبيب يونس في ندوة الإعلام الثقافي وثقافة الإعلام
بيت الشباب والثقافة زوق مكايل 10 – 4 – 2025
أسعد الله رماحَكم تُثقِفونها لتصيب
ومسا الزَّهرةِ الجنوبيَّة الفائحِ عطرُها من خلفِ دخانِ الحقدِ والعداوةِ للإنسانيَّة، مسا ناريمان علوش التي جمعتنا جميعًا في هذا البيت الدافئ بمحبتِّه وأبوابه المشرعة على كلِّ جمال.
سعيد أنا أن أكون وسط هذه الكوكبة من أهلِ الإعلامِ الثَّقافي، وأن أكون بينكم ذي العشيَّة.
أما في موضوع الندوةِ، فثمة سؤال بدهيٌّ: هل بات المثقَّف، في عصر “السُّوشال ميديا”، “دقَّة قديمة”؟
هل سِعةُ معرفته المفترَضة تهدِّد بفضح سطحيَّة ما تعرِضه وسائل التَّواصل الاجتماعي إجمالًا، فيُعدَّ المثقَّف لحظتذاك، عدوًّا لنمطٍ سائد سمَّاه ألان دونو نظام التَّفاهة؟
ليست الثَّقافة ترفًا، بل هي جوهرٌ وأساس. هي كل ما نختزن ونراكم من معارف وعادات وتقاليد وتراث وإرث حضاريٍّ وإنسانيٍّ، فنعتبرُ ونتَّكئ ونُكملُ بآفاق أوسع وآماد بلا حدود. هي رؤية تستشرف، تخطِّط، ومن “الشَّطحات” الَّتي يطير بها الخيال، يُستلهم طَموحٌ، فيُنفَّذ.
والظَّاهر أن هناك من يريدنا أن نبقى بلا طموح، وأن تُزنَّر آمادُنا بحدود، فنجترَّ تفاهاتٍ نعمِّمها، ونروِّجَ لأنصاف مواهب. وإذ نتعوَّد هذا السلوك، ننسى المثقَّف الحقيقي الَّذي يبدو أنَّه زائل لا محال، في تصنيف هؤلاء.
يقول نيتشه الَّذي وُصِم بالإلحاد: أعرف مسيحيًّا واحدًا، على مرِّ التَّاريخ، وهذا المسيحيُّ مات على الصَّليب.
وأقول… وأينني من ذاك العبقريِّ الألمانيِّ: أعرفُ مثقَّفًا واحدًا في العالم، مذ نشأ الكون، لكنَّني لم أرَه، وما أحد رآه، هو الله.
المثقَّف أو الثَّقافة، كلمة غامضة، لم تشفع في كُنه سرِّها، كثرةُ التَّعاريف والمحدِّدات التي فسَّرتها وحاولت الإحاطة بها، من حذاقة القواميس، إلى ثِقاف الرِّماح، وصولًا إلى ترف الصِّفات التي أُطلقت عليها، في عصرنا الرَّاهن، حتَّى اختصَرَتْها، ربَّما، صورةُ فرد في مقهى، كثِّ الشَّعر شعِثِ اللِّحية، تتدلَّى سيجارةُ الجيتان من بين شفتيه، ويكتب طَوال النَّهار، نصًّا في مقهى، على فِنجان قهوة واحد. رحم الله “كافيه دو باري”، أفلست.
حتَّى طلَع علينا أكثر من كاتب بسؤال “من هو المثقَّف” ليرهِق المعاني والتَّفاسير والتَّعاريف، بأبعاد كثيرة.
فالبعض يهربُ إلى حديقة منزله مثلًا، ليصوِّر لنا واحته بأشجارها وعطور أزهارها، فيتحوَّل دور من يسمِّيه المثقَّف إلى التَّعمُّق بالثَّقافة البيئيَّة ليحذِّر من خطر زوال.
ويريد الأستاذ الجامعيُّ مثلًا، أن يتوفَّر المثقَّف على المعرفة العلميَّة المتشعِّبة والكثيرة، لأنَّ أسرارًا كثيرة تُكتشف بالعلم، وتُصحَّح مفاهيم أكثر.
وثمة من يدعو المثقَّف إلى أن يكون ضمير البشريَّة، فينقذُ الكرة الأرضيَّة من زوال محتَّم، ويقبِضُ على الحقيقة بالعلم والمعادلات الحسابيَّة، فيدعو إلى تعزيز الاقتصاد الرَّقمي، ما دام الاقتصاد، على ما تفضَّل العزيز كارل ماركس، هو الَّذي يتحكَّم بمسار التَّاريخ.
وثمة من تناولَ، تشريحًا، التَّأثيرات الدِّينيَّة في الثَّقافة، وهجَسَ بالوعي رفضًا لببَّغائيَّة التَّلقين والتَّلقِّي.
لكنَّ كلَّ ما سبق لم يروِ تحديدي هويَّةَ المثقَّف، كما أراها، من منظاري.
أعود إلى الله، المثقَّف الأوحد. وصورته في مخيَّلتي، لوحةُ الجدار الَّتي زين بها مايكل أنجلو سقف “شابيل سيستين” في الفاتيكان: راءٍ على جبلٍ عالٍ، ومن تحته المدن والنَّاس، يمدُّ لهم إصبعًا أو يدًا، تدلُّهم إلى درب الخلاص.
المثقَّف هو كثيرٌ من الله، ويكاد يكونُه لولا أنَّ الكمال لسبحانه وتعالى وحدَه. المثقَّف هو الضَّميرُ جميعُه، غيرُ منتقَصةٍ منه وخزة.
المثقَّف هو العارفُ الأمثل الأشمل الَّذي لا يتباهى بسعة معرفته، بل يدرك، أينما وُجد وحلَّ، كيف يوظِّف تلك المعرفة، في وضع رؤيةٍ ورؤيا، تسبِقان الزَّمان، وتنقلان المكان إلى مطارح جديدة.
المثقَّف هو تكوين عقليٌّ منهجيٌّ، ولو فوضويًّا أحيانًا، يرتِّب المعارف الكثيرة في لحظةٍ خاطفة، فيطلُّ علينا، بما لم يستطعه أوائلُ، سواء غابوا أم كانوا حاضرين… ودعْك، ساعتذاك، من معلومةٍ لديه أو ذاكرة فيل، أو حفظ واستظهارٍ، تستطيعها كلُّها ذاكرة كومبيوتر أو خِزانة موقع إلكترونيٍّ، ما إن تكبس زرًّا.
المثقَّف هو القول الصَّادم، في وهلة أولى، والكلمة السَّواء حين يستعيد المرءُ وعيًا غلَّفه غبار جهل أو غيمةٌ عاطفة، أو موجةُ مصلحة.
المثقَّف هو أن يعيَ عموديًّا، لا أفقيًّا، التَّاريخ والمجتمع والفنون والعلاقات الإنسانيَّة، لينسِج منها ثوبًا يليق بالأرض وبالإنسان.
المثقَّف هو الصَّدر المتَّسع لكلِّ قول وجدل، بالحجَّة يُقنع، وبالمنطق، وبكثير المعرفة، لا ذاك الجاهلُ المدَّعي الَّذي قال الإمامُ عليٍّ إنَّه يخشاه لأنَّه يتغلَّب عليه.
والمثقَّف، أخيرًا، وليس آخرًا، هو أن يكون صمتُه أحيانًا أبلغَ من أيِّ كلام، وانزواؤه أكثر حضورًا من أيِّ ظهور.
وما دام الله، في نظري، المثقَّف الأوحد، هل تنجح وسائل التَّواصل، في جعله “دقَّة قديمة”؟ حاشا وكلَّا، شكرًا لك يا ألله، أنَّك لا تشيخ!!!
بدأت بالعزيزة ناريمان، التي لا تشيخ أيضًا، وكذا همَّتها الدَّائمة الصِّبا. وأنهي بناريمان القصيدة التي تدعوك عيناها إلى أن تقرأَها فتحفظَها عن ظهر قلب:
إِقْرَأْ… فَمَا الْحَرْفُ سِوَى سَرَابِ
وَالْحِبْرُ صَحْرَاءُ
إِقْرَأْ… فَمَا الْكِتَابُ غَيْرُ غَابِ
عَرَّتْهُ أَفْيَاءُ
إِقْرَأْ… وَمَنْ أَنْتَ؟ غَدُ الضَّبَابِ
تَطْوِيهِ لَيْلَاءُ
إِقْرَأْ… وَمَا الْجَسَدُ غَيْرُ نَابِ
وَالنَّهْشُ إِمْضَاءُ
إِقْرَأْ… تَكُنْ يَا رَجُلَ الْكِتَابِ
فَاصِلَةً بَيْنَ سُطُورِهَا مَا
ارْتَدَتْ سِوَى رَائِحَةِ الثِّيَابِ…
إقْرَأْ وَقَدْ أَمْعَنْتَ فِي إِيَابِ:
أَلصَّوْتُ أَصْدَاءُ
وَالشِّعْرُ أَمْدَاءُ
وَالْعُمْرُ أَهْوَاءُ
وَالْحُلْمُ إِغْرَاءُ…
مَا رَجُلٌ إِنْ قَرَأَ الْقَوَافِي
وَلَمْ تَشِلْ بِهِ، سِوَى اغْتِرَابِ
عَنْ مَنْزِلٍ، بِلَا عُرًى وَبَابِ…
إِقْرَأْ فَإِنَّ الشِّعْرَ إِغْوَاءُ
كُنْ رَجُلًا… قَصِيدَةَ الْكِتَابِ
وْاقْرَأْكَ فِيهِ فَلَأَنْتَ الْحَرْفُ وَالْقُرَّاءُ…