ناريمان علوش تستعيد توازن روحها المسافرة عبر الأزمنة في قصيدة : عندما كنت بنت النيل..

ناريمان علوش تستعيد توازن روحها المسافرة عبر الأزمنة في قصيدة :” عندما كنت بنت النيل” …

 

أنطوان يزبك

هذه القصيدة “عندما كنت بنت النيل “، ترد في الصفحة (103) من إصدار جديد ، كناية عن ديوان شعري مشترك بين شاعر وشاعرة عنوانه ” قاب قصيدتين ” هو عمل يحتوي على مجموعتين من القصائد ،المجموعة الأولى تعود لعلي جواد ، ومجموعة أخرى لناريمان علوش مع خواطر و شذرات كتبتها الشاعرة تظهر الكثير من شخصيتها المميزة وعمق تجربتها .
تذكرنا ناريمان في قصيدتها تلك؛ أنها ابنة الكون السري العظيم، الرحب الشاسع الواسع واللامتناهي، ليس فقط في المكان ولكن في الزمان أيضا و “الدليل “على ذلك أنها كانت تعيش في نيل الفراعنة زمن الآلهة والمعابد و أزهار اللوتس والنيلوفر ، بشهادتها هي ، وصدقها وعفويتها التي لا شك بها البتة ..

و نحن تاليا نجد أنفسنا في مواجهة جملة أسئلة تتهافت علينا ، أسئلة ملحة وصعبة ولكن لا يمكننا تجاهلها بل علينا محاولة فهمها واستقراء مؤداها وهي من مثل :

هل يصح لنا أن نطرح السؤال من مفهوم “الزمكانية ” و بوابة تناسخ الأرواح ؟ علما أن الشعر لا تحده ضوابط أو سدود وموانع في الزمان والمكان ولا في اللغة أم اللسان والشكل والبيان ومناهل العلم و الإيمان !
وأيضا هل تناسخ الأرواح موجود بالفعل وليس فقط بالقوة بمعنى أن الإنسان يحيا أكثر من حياة على هذه الأرض بطريقة العودة بالجسد والروح ؟ !

أسئلة كثيرة نحاول فهمها ، و من يلج هذه القصيدة من باب واسع، يكتشف عوالم مذهلة من المعاني والتلميحات؛ بداية من عنوان الكتاب :
“قاب قصيدتين ” وفي التثنية مضامين ومقاصد عديدة لا تعدو كونها توريات بل تتخطى الى أبعاد أخرى خارقة لا تقف عند حاجز زمني أو مادي إلا من حيث هي مذكرة لنا بالآية الكريمة :

{ فكان قاب قوسين أو أدنى} ،
فهل يقترب الشعر دون الوعي أو يحايث اللامحسوس فيشكل ما يشبه القوس حين يتوتر حبلها لإطلاق النبال كما في مقولة زينون : ها أنني أطلق سهمي إلى الضفة الأخرى وحيث سوف يقع لا أعلم ولا أبالي… أو أن عملية القذف تشبه إلى حد بعيد قذف الإيمان قذفا إلى الصدر كما علم الغزالي الشيخ الإمام البحر !.

في قصيدة : عندما كنت بنت النيل سنجد ولا ريب مجمعا للأسرار يتكاثف ويتآلف حيث يتحول الى زمن خصب ومجيد ونلمس بحواسنا مسألة السفر عبر الزمن و أطروحة صريحة لاستعادة احتفالية تناسخ الأرواح من زمن الى آخر ولكن بصيغة جديدة، وها هي ناريمان تقول أيضا في قصيدة سابقة في الديوان عينه أيضا :

” أنا أفروديت الجديدة ،
أكتب أسطورتي بحبر من نبيذ مر ّ “.
(صفحة85 )
في قصيدة “عندما كنت بنت النيل” تعود ناريمان لتستفيق في وادي النيل كما في فيلم Stargate من خلال نسخة فياضة لروحها المتجسدة في رحاب مصر القديمة مسكن الفراعنة وأول حضارة متقدمة في التاريخ . تولد نضرة كزنبقة، على ضفاف النيل من جديد، مجبولة من الطين الأحمر الوردي، الموجود على ضفاف النهر والذي يطلق عليه عادة اسم الطمي وذلك من خلال استعادة الأسطورة الفرعونية القديمة والتي نجدها في كل الديانات :
أن الإنسان جُبل من طمي النيل وخُلق من هذه التربة الحمراء الحامية، فكان ما كان عليه هذا الإنسان وقد نكون كلنا خلقنا هناك أصولنا من هذا النهر العظيم الذي هو بمثابه الشريان الذي يغذي الأرض والبشرية، ومن نسغ النيل الخصب تتوالد الأرواح التي تحيا هذه الأنشودة الكبرى و التي هي معجزة الحياة من خلال الشعر المتفلت من كل القيود والتابوهات و الممنوعات . ولا يسعنا هنا سوى أن نصرخ مع شكسبير على لسان بطله هاملت وهو يكلم هوراشيو :

“هوراشيو هوراشيو ؛ هنالك أسرار عديدة في الأرض والسماء لا تستطيع الفلسفة أن تشرحها “. (المقصود بالفلسفة هنا ؛ العلوم لأن الفلسفة كانت تعتبر أما للعلوم قاطبة ) .
في كل الأحوال نحن نتعامل مع قصيدة من خارج الزمن، قصيدة محررة للعقل والروح لأن ناريمان تكتب للحرية .
تقول ناريمان في البداية :

” في زمن لم تعرف فيه الشمس الغياب “،
أجل إنه كون مخلوق من تكوين خارق ونسمة حرة محيية، مبهجة تسبق الشمس في الأصيل ولا توثق لحظة الغياب ،لا بل تزهر من خلال نزعة الحب الأبدي و شعلته التي لا تنطفىء ، ومعرفة الذات في العمق لأنها تستعيد رؤى حصلت في زمن عاشت فيه وهو مرسوم في حنايا روعها لا يغيب ولا يخفت .

غالبا ما ينسى الجسد أنه كان موجودا في حيوات أخرى وقد قال بوذا أن ذاتا قاصر ، هي المسؤولة عن تصرفات الجسد بينما في الواقع كان الجسد يتأثر بذبذبات الكون وكأنها الظواهر التي يفرضها العقل على الوعي ، ولكن في الحقيقة حين يدرك الإنسان كينونته ويستعيد الوعي وعيه إذا صح التعبير ، يتمكن هذا الانسان الغارق في الروح الى آخر حدود من أن يستعيد حيواته السابقة ويدخل في عمق الأحاسيس و يستحصل قدرة الإدراك أللا محدود لذاته ، ويتمكن أيضا من استحواذ اللحظة من خلال استعادة المشاعر والمحسوسات في كل مكان من هذا العالم وتحت كل سماء .

كذلك تقول ناريمان :

” كنت اكتب على أوراق البردي،
سر اشتياقي ”
فهي في هذا العصر كانت شاعرة ايضا !..
وتقول متابعة :
“كانت ضفتي النيل تعرف اسمي ، وكانت العصافير تحفظ وقع خطاي”.
ولا استبعد ان تكون ناريمان في حياتها السابقة قد عاشت في أكثر من زمن ولكن زمن الفراعنة هو الذي ترك بصمته ، بصمة لا تمحى ، ذلك الزمن الكامن بين أزهار اللوتس والنيلوفر وكل ما هو جميل تعشقه العين ويعشقه القلب ومن يعتقد أن هذا الكلام من باب الهذيان فهو لم يتبحّر في علم النفس و علم الماورائيات ، ولم يكتشف أن الإنسان ليس ابن اللحظة ، بل يمتلك في أفكاره عمقا قديما هو في الحقيقة بئر تحولت مع الزمن الى بئر من النسيان ، ذاكرتنا مهما حصل معها من صدمات نفسية ، تتخطى الأزمنة و تتحداها وكأنها تجوب الكون في رحلة مستدامة من الماضي الى المستقبل مرورا بالحاضر .
تعيش ناريمان في حالة من الحنين الكبير والحاد الى الذي عاشته في حيوات سابقة وما يتراءى لها اليوم ليس سوى أحاسيس صارخة، صدى لكل ما حصل معها في الماضي … من يتأمل ناريمان في عينيها يفهم لماذا تحكي عن الكحل وكيف كانت تتزين به ، وتقول عنه إنه مستخلص من روح الليل ! هو بالفعل كحل شديد السواد تماما مثل الليل الفاحم والضارب في الحلكة ، ذات السواد الكثيف الذي يخيّم على وادي النيل ولكنه ليل لطيف عذب النسائم يبل حر النهار ويمنح البرودة .
حبر الكحل ليس سوى ليل عاشق يدخل في الأوردة مثل الترياق المحيي وفي أولى ساعات الفجر يتحول الى مزيج من الأسود والأزرق وما يطلق عليه اللون النيلي، الذي يلون فجر مصر و في بداية الصباح حين تبدأ خادمات المعبد بحمل البخور إلى تماثيل الآلهة كما تصف ناريمان في قصيدتها ، في تلك الإحتفالية التي تسبح قدوم نهار جديد ، تشعر فعلا أنك تعيش في زمن الفراعنة و لا شيء يحتفي بك سوى انتصار أبدي للروح لأنه زمن روحي بامتياز وليس زمنا مزيفا أو من نسج الخيال بل هو أكثر من واقع لانه محسوس ولا يزال يعيش في داخلك كما الدماء التي تجري في العروق ! .
في ذلك الزمن ودعت ناريمان حبيبا ، لا تزال تبحث عنه حتى الآن فهي تقول في ختام القصيدة :

“في داخلي
ما زالت تنبض قصيدة قديمة
كتبتها على جدار معبد مندثر
وما زالت الريح تقرؤها كلما مرت فوق الرمال .”
هذه الأبيات تذكرني بجدارية في أحد معابد مصر الفرعونية، تمثل الفرعون توت عنخ أمون يقدم زهرة لوتس لحبيبته الخالدة نفرتيتي وقد خلدت هذه الجدارية حبهما إلى الأبد بحيث أن الزائرين لا يزالون حتى يومنا هذا يشهدون على هذا الحب الخالد !!…