مهى الخوري: ” ع قارب الوقت تواصل حركتها ودورانها داخل وجدان القارئ…

الأديبة د. مهى الخوري نصّار

مهى الخوري نصّار كاتبة لبنانيّة، حائزة على دكتوراه دولة في اللّغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللّبنانيّة، المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
حائزة دبلوم دراسات عليا في تعليم اللّغة العربيّة، كلّيّة التربية. أستاذة في ملاك الجامعة اللّبنانيّة، كلّيّة الآداب، الفرع الثاني، ورئيسة الفرقة البحثيّة في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، قسم اللّغة العربيّة..

بين النقد والتحليل، أثرت المكتبة العربية بسلسلة من المؤلفات التي تتناول بنية الشعر العربي، والنص الإبداعي والسرد في الرواية العربية .. بالإضافة إلى مجموعتين قصصيتين: “عزف على مرآة الحياة”  و “ع قارب الوقت” الصادرة حديثًا عن دار كتابنا في بيروت. في ٨٦ صفحة تجيب الكاتبة عن تساؤلات قلقها حول الزمان والمكان، وستجيبنا الآن عن تساؤلاتنا حول كل ما يتعلق بهذه الولادة الإبداعية.

 

 

*- تحمل مجموعتك القصصيّة عنوان “ع قارب الوقت”، وهو عنوان يرمز إلى الزمن والحركة، أكان من خلال الإبحار عبر القارب أم عقارب الوقت، كيف يرتبط الإبحار عبر الزمان والمكان بثيمات القصص التي تضمّنها الكتاب؟

حين تبلورت فكرة العنوان “عَ قارب الوقت” في ذهني، كنت أبحث عن معبرٍ خفيّ بين الزمن بوصفه حركة دائمة لا تهدأ، والتجربة الإنسانيّة التي تُسبغُ على الزمن معناه.

فالقارب في هذا الإطار ليس مجرّد وسيلة نقل بل هو الكائن الإنسانيّ في جوهره، مبحرًا بين ذكرياته وواقعه وأحلامه، بين محطّات الوصول إلى الميناء وهاوية اللّايقين والسراب، كأنّه يسابق العقارب التي ليست مجرّد وحدات تقيس الزمن، بل هي ندوب تنقشها التجربة في الروح، وتحفرها في الذاكرة، كأنّها تحاول إنقاذ اللحظة من الضياع. وبذلك، الزمن في هذه القصص ليس كيانًا ثابتًا يُقاس باللحظات ولا خطًّا مستقيمًا، بل هو حركة دائمة وتيّار متدفّق، يحمل الشخصيّات المأزومة من لحظةٍ إلى أخرى، كما تحمل الأمواج القارب نحو مصاير معروفة حينًا ومجهولة حينًا آخر. أمّا المكان فلا يقلّ سيولةً عن الزمان، الشاهدِ الصامت على العبور، أو قل القيد الذي تحاول الشخصيّات كسره لا للهرب بل لاكتشاف حدود حرّيّتها.

وقد يكون هذا العنوان محاولة للإجابة عن تساؤلات تؤرّقنا وتقلقنا: هل نحن مَن يتحكّم بالزمن أم أنّه هو الذي يقودنا ويحكمنا؟ وهل قارب الوقت يمضي بنا إلى وجهةٍ معلومة ومحدّدة أم أنّه يطوف بنا في دوائر مجهولة مغلقة داخل أنفسنا؟

 

*- ما القواسم المشتركة بين قصص المجموعة؟ هل هناك خيط سرديّ أو فكرة محوريّة تجمع بينها، أم أنّ كلّ قصّة مستقلّة بذاتها من حيث الفكرة والأسلوب؟ 

قد يمكنني القول إنّ القصص بمجملها تستمدّ روحها من الواقع، لكنّها لا تكتفي بسرده بل تغوص في عمق تفصيلاته الخفيّة في محاولةٍ لفهمه وتأويله وإعادة تشكيله برؤية مغايرة. تعكس القصص في الغالب الأعمّ نوعًا من الصراع الداخليّ والخارجيّ المرتبط بموقف إنسانيّ أو بتجربة إنسانيّة مكثّفة، وذلك ضمن حيّز مكانيّ محدود وإطار زمنيّ قصير، وضمن نهاياتٍ مفتوحة تترك أثرًاعاطفيًّا وفكريًّا، ما يجعل القارئ يتأمّل في رمزيّتها ومغزاها.

كذلك، يمكنني القول إنّ اللحظةَ حاسمةٌ في القصص كلّها، فثمّة اشتغالٌ على فكرة الزمن الثابت والعابر والضائع، الكفيلِ باختزال حياةٍ كاملة.

*- القصّة القصيرة تتطلّب تكثيفًا في السرد وبراعة في إيصال الفكرة بأقلّ عدد ممكن من الكلمات، فكيف تعاملتِ مع هذا التحدّي في “ع قارب الوقت”؟

غنيٌّ عن البيان أنّ كتابة القصّة القصيرة على نحوٍ عام تتطلّب اشتغالًا على التكثيف الدلاليّ والترميز والتلميح والدقّة والاقتصاد اللغويّ المكثّف… ويبقى التحدّي في تحقيق التكثيف من دون إسقاط التفصيلات التي تخدم السرد، وفي الإضاءة على إشارات سريعة مع الإبقاء على غناها الإيحائيّ، وفي ترك مساحات للقارئ لملء الفراغات، وفي التقاط اللحظات الحاسمة والمتفرّقة والدقيقة من دون الوقوع في الإسهاب، والأهمّ بالنسبة إليّ هو العمل على ترك النهايات مفتوحة، لا مكان فيها لخاتمة مغلقة، ما يترك أثرًا في ذهن القارئ إذ يجعله يتفاعل معها ويتأمّل فيها حتّى بعد أن يُغلق الكتاب، وكأنّ عقارب الوقت تواصل حركتها ودورانها داخل وجدانه.

أمّا البراعة برأيي فلا تكمن في ما يُقال فقط، بل في ما يُترَك ليُفهَم من دون أن يُقال.. 

*- من بين القصص التي كتبتها، هل هناك قصّة كانت الأقرب إلى قلبك أو استغرقت منك وقتًا أطول في الكتابة والتعديل؟ ولماذا؟

بالنسبة إليّ كلّ قصّة كتبتها تحمل جزءًا منّي. لكنّ القصّة التي كانت مرآةً لروحي والتي رأيتُ فيها وجهي الحقيقيّ في كلّ انعطافة سرديّة وفي كلّ خطوة كنت أبحث فيها عن الصيغة الأكثر صدقًا لالتقاط جوهرها وللإحاطة بحقيقتها، هي الأخيرة في مجموعتي، والموسومة بــِ: “لعبةُ جنيِ الأموال”. فكتابتها كانت أشبه بعمليّة نحت في داخلي. هي ليست مجرّد سردٍ للأحداث على الورق بل هي شهادةٌ على تجربتين ورؤيتين تبلورتا عبر تضادٍّ أوجد فيّ توازنًا خاصًّا قد لا يُشبه إلّاي.

أراها تجربةً صفّيتُ فيها ذاتي عبر رجلَين – والدَين، كان لكلٍّ منهما دور في بنائي، أو قد تكون رحلةً تأمّليّةً في ماهيّتنا: فهل نحن حصيلة مَن علّمونا؟ أم أنّنا نصنع أنفسنا عبر الانتقاء الواعي لما نأخذه ممّن سبقونا؟ وهل يمكننا أن نوازن بين ما جُبلنا عليه وما نريده وما تفرضه علينا الحياة؟ 

 

*- لديك تقريبًا ثمانية إصدارات سابقة من بينها مجموعة قصصيّة بعنوان “عزفٌ على مرآة الحياة”، كيف كانت استجابة القرّاء لتلك المجموعة، وهل هناك قصّة معيّنة وجدتِ أنّها لاقت صدًى خاصًّا لديهم؟

“عزفٌ على مرآة الحياة” كانت تجربة إبداعيّة ممتعة ومتجدّدة. ضمّت هذه المجموعة قصصًا تنبض بالحياة من زوايا مختلفة، تلقّيتُ إثرها ردودَ فعلٍ متنوّعة من القرّاء والنقّاد. ولا أخفي عليكم أنّ ثمّة قصصًا كان لها صدى أقوى من سواها فاستوقَفت الكثيرين، وكانت تعليقاتهم تُختصر بالدهشة من التناقض الواضح بين شخصيّتي الواقعيّة ونتاجي الأدبيّ. فبشاشة وجهي لا تتوافق برأيهم والقصص التي أتت مغمّسة بالحزن والأسى والصراعات والمآزم العاطفيّة والوجوديّة. لفتتني هذه التعليقات ونبّهتني إلى أنّ الكتابة بالنسبة إليّ قد تكون عالمي الموازي، حيث أُطلقُ العنان للألم المخفيّ إزاء معاناة الإنسان في كلّ زمان ومكان.

ومن بين القصص التي لاقت تفاعلًا أذكر قصّة “عبد الوهّاب” التي عالجت موضوعًا إنسانيًّا عميقًا وطرحت فكرة التناقض بين القيد والحرّيّة. فالقيد لا يكمن دائمًا في الأغلال الظاهرة، بل في المخاوف والمسؤوليّات والهواجس التي تُثقل كاهلنا في اللحظة عينها التي نعتقد فيها أنّنا أحرار طلقاء. وبذلك، قد تكون الحرّيّة مجرّدَ وهمٍ أو مساحة لامتناهية تجعلنا أكثر ضياعًا، وتتركنا نقبع مكبّلين داخل قيودٍ خفيّة.

*- لماذا اخترتِ هذا النوع الأدبيّ لإيصال أفكارك؟ لماذا لم تختاري الرواية؟ وهل تفكّرين في كتابة روايةٍ ما؟ متى سيكون موعد التوقيع؟

   أنا لم أختَر هذا النوع الأدبيّ بل هو الذي اختارني. قد يكون بسبب تركيزي على اللحظة الزمنيّة بذاتها وعلى تأثيرها في الشخصيّات، فضلًا عن اقتناعي بقدرة الأسلوب القصصيّ على تكثيف الفكرة والتأمّل العميق، وعلى استكشاف أفكار متعدّدة وزوايا مختلفة ضمن إطار زمانيّ ومكانيّ متغيّر، بعيدًا من الالتزام بخطّ سرديّ واحد وببناءٍ ممتدٍّ للشخصيّات والأحداث. 

أمّا لِمَ لمْ أكتب الرواية فأجيب أنّ هذا الأمر لم يحصل لكنّه لم يكن يومًا مستبعدًا. قد يعود السبب لكون الرواية تتطلّب امتدادًا سرديًّا واستعدادًا للدخول في الحالة السرديّة على نحوٍ مطوّل ومتواصل، وهذا ما لم يكن متاحًا لي بسبب عامل الوقت وضغوط الحياة اليوميّة. ولكن، هذا لا يعني أنّني لا أفكّر في كتابتها، إذ إنّني بدأت بالفعل في استكشاف ملامحها، انطلاقًا من فكرةٍ قيد التبلور، إلّا أنّني أتعامل معها بحذر، وأترك للنصّ حرّيّة التشكّل على وَفق ما تفرضه مقتضيات السرد وطبيعة الأحداث، من دون أن أفرض أو أفترض لها شكلًا نهائيًّا منذ الآن.  

أمّا بالنسبة إلى التوقيع فلم أحدّد موعدًا لأنّه ليس من ضمن خططي حاليًّا، لكنْ يسعدُني أن تأخذ المجموعة مسارها الطبيعيّ وأن تصلَ إلى مَن يهتمّ بها.

يمكنكم تصفّح العدد الأوّل من جريدة الأندلس عبر هذا الرابط :

العدد الأوّل من جريدة الأندلس