سعيد عقل جعل من اللغة ملكةً لا تعطي خصرها لغير الملوك…
بقلم الشاعر والإعلامي زياد عقيقي
أن أكتب في سعيد عقل لأشبهُ بتسنّم أولمب الشعرية المطلقة..الشعرية المقطّرةعلى نار الفكر الخالص والفنيّةِ المرهفة. فسعيد عقل، هذا العنقود الزحليّ الحاضن كل شمس السهل وخصوبة أرضه، كل امتداده واتساعه، كلّ انحباسه وانفلاته إلى مبالغة تجاوزية إلى سماء؛ هذا العنقود صار نبيذ القصيدة على مائدة أبد…
لم يكن مرور سعيد عقل باللغة مروراً عارضًا..وقد كانت هذه اللغة تتكسّب مدد حياتها من العابرين بلا ظلال…سعيد عقل جعل من اللغة ملكةً لا تعطي خصرها لغير الملوك ولا يتجرّأ على مقاربتها غير النخبةِ . وهذه اللغة ذاتها التي ألبسها التاج وأعلاها على عرش الجماليّة، هي نفسها التي هجرها حين فقدت نضارتها وقدرتها على الإدهاش..ودعا إلى المحكيّة لغةً على نضرة أنوثتها وخصوبةِ حبرها، لغةً تثب بالشعرية إلى غدها الأعلى والأبعد .
سعيد عقل، شاعراً، قدّم الأنموذج الشعريّ الأروع في الجماليّةِ والفنيّة والتخيّلية، بل كتب القصيدة التي تستنفد ما فيك من طاقةِ فكر ورهافة حسّ وقدرةٍ على التخيّل حتى إذا ما تسنّمتها بلغت بها نرفانا اللحظة، وأعطتك نشوةً روحيّة لا تنطفئ. ولعلّ ما ميّز القصيدة السعقلية هو هذه التجاوزيّة المطلقة بحيث لا حدود للفكر الإنساني ولا للخيال فكل وثبةٍ من المحسوس هي طواف تصاعديّ إلى التجريد المطلق، تحليق نسريّ في فضاءات لا سقف لها ولا حدود؛ وميزة أخرى في القصيدة السعقلية هي هذه المبالغية التي عملقت اللحظة الشعرية ، قطفت كرومها وعصرتها ، خمّرتها وأولمت لها أعيادًا وأعياد، مبالغة طبعت لغة معاصريه وأبناء السهل بعطرٍ محبّب نتنسّمه من أقوالهم وأشعارهم بل من مواقفهم وسلوكياتهم..
وسعيد عقل، مفكّرًا، لم يعفَّ جناحه عن فضاء من فضاءات التاريخ والفلسفة والسياسة وعلم الاقتصاد، وكم قدّم من رصين الفكر وغريب التحليل ومدهش الحلول، كلّ هذا بمنطق سعقليّ خالص لا يمكن أن يشبه منطق الناس ولا تجرؤ مخيلاتهم على مجاراته، منطق عقليّ خالص، وتجرّئيّ خالص، يقدّم لك أفكاراً كبرى عظيمةً لا تنقاد لغير العمالقة.
أذكره لقاءنا ذات مراهقةٍ على تفتّح براعم الشعر عندي، هنالك في شقته الساحلية وقد قدّمني إليه صديق مشترك هو الأستاذ ريشار شمعون، كان ممدّدا في فراش وعكة عابرة، أسمعته من قصائدي فكبُرت في عينيه، فسوّى جلسته في فراشه، ليعطيني بقليل القليل من الكلام كثير الكثير من مفاتيح قصور الشعريّة التي صارت مفاتيح محابري ..علّمني كيف تتزاوج الصورة والصورة وكيف تتناغمان، كما علّمني كيف تتزاوج القوافي المفتوحة والمقفلة ليتوهّج الجمال…وأذكر أنّه استبقانا لساعتين طوييييلتين قيلتين يقرأ علينا مخطوط مسرحيّة يكتبها …وكم طوّف بنا عالياً في فضاءات وفضاءات…
أنا مدرك أنّني لست ولم أكن سعقليًاً يومًا لا في أفكاري ولا في قصائدي، ولكنني موقن أنّ سعيد عقل له عليّ أضواء شعر وأفياء ..وموقن أنّه في مسار الزمن الشعري هو بمثابة البيغ بانغ أو الانفجار الكبير الذي شكّل مسار مجرّة القصيدة ومدّها بنسغ الحياة وأعلى من جمالها على مرآة العظمة، بل هو أعاد تشكيل اللغة بين تقديم وتأخير لتعطي أبعادًا لم تعطها قبلًا وما كانت لتعطيها لولا هذا المارد الشعريّ الجميل.
سطور هزيلات في سعيد، وكيف تطوّق بيديك المحيط؟! هي محاولةٌ لا أكثر أن أشير إلى المحيط…وسيبقى سعيد عقل، رغب كارهوه أم لم يرغبوا، علامةً فارقة طبعت العصر ورفعت الشعر والإنسان إلى سماوات ربّ… وسيبقى صداها في وجدان الأرض ما بقيت أرض وما نبضت حياة.
بكفيّا 19 نيسان 2025
زياد عقيقي