*أزمة الثقافة العربية*
علي جواد/ مدير عام جريدة الأندلس
إن الحديث عن أزمة الثقافة العربية يبدو كاستدعاء دائم لمحنة متواصلة، فلا يكاد يمر عقد من الزمن إلا وتتعالى الأصوات محذّرة من انحسار الفكر وتراجع الإبداع وتكلّس الوعي الجمعي. ولكن، هل حقًا تعاني الثقافة العربية من أزمة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي أبعاد هذه الأزمة وجذورها وآثارها؟
عند التطرق لمفهوم “أزمة الثقافة”، ينبغي أوّلًا تحديد ماهية الثقافة نفسها؛ فالثقافة ليست مجرد نتاج أدبي أو فني، بل هي بنية معرفية واجتماعية تتشكل من مجموعة القيم والمعتقدات والعادات والتصورات التي تحكم المجتمع، وتحدد رؤيته للعالم. وعليه، فإن الأزمة الثقافية تعني اضطرابًا في هذه البنية، وتجليًا لحالة من الانفصال أو التشوّه في فهم الذات والآخر.
في السياق العربي، تتخذ الأزمة أبعادًا مركبة تتداخل فيها السياسي مع الفكري والاجتماعي، فنجد تراكمات من الصدمات التاريخية تبدأ من عصر الانحطاط مرورًا بالاستعمار والهيمنة الثقافية الغربية، وصولًا إلى تحولات العولمة واختراق التقنية. هذه الصدمات جعلت المثقف العربي عالقًا في مأزق هوية، يميل تارةً إلى محاكاة النموذج الغربي بنوع من الانبهار، وتارةً أخرى إلى الانغلاق على التراث بمثالية مغرقة في النوستالجيا.
تعاني الثقافة العربية من انقطاع تاريخي منذ تفكك الحضارة الإسلامية وصعود قوى الاستعمار، ما جعلها رهينة لرواسب تاريخية عطلت قدرتها على التجدد. أدت الهيمنة الاستعمارية إلى فرض النموذج الثقافي الغربي وتحجيم الثقافة المحلية، ما خلق ازدواجية في الوعي العربي بين التراث والمعاصرة.
نتيجة للاستعمار، ظهرت تيارات فكرية متضادة؛ تيار محافظ يرى في العودة إلى التراث حلاً للأزمة، وآخر يرى في تقليد الغرب طريقًا للحداثة. لكن كل من التيارين عجز عن خلق نموذج ثقافي عربي مستقل؛ فالأول غارق في التراثية والجمود، والثاني أسير الحداثة المستوردة دون نقد أو تكييف.
فشلت النخب الفكرية والسياسية في بلورة مشروع ثقافي نهضوي يجمع بين الأصالة والمعاصرة. وبدلًا من ذلك، شهدنا مشاريع أيديولوجية متصارعة (قومية، إسلامية، اشتراكية) لم تستطع تحقيق التكامل بين التراث والحداثة، بل زادت تعميق الاستقطاب الفكري.
ساهمت الأنظمة الشمولية في الوطن العربي في تكريس الرقابة والوصاية على الفكر والإبداع، ما أدى إلى تدجين المثقفين وابتعادهم عن قضايا المجتمع الحقيقية، فضاقت مساحة الحرية وأُقصي النقد البناء لصالح التمجيد والدعاية.
أدت الأزمة إلى تآكل المنظومة القيمية وانحسار روح الإبداع، فأصبح الإنتاج الثقافي العربي في معظمه يدور في فلك التقليد أو الاستسهال. كما فشلت المؤسسات الثقافية في خلق بيئة فكرية حاضنة للإبداع والتجديد، واختزلت الثقافة في أنشطة استعراضية وشكلية بعيدة عن العمق.
الجيل الجديد من المثقفين وجد نفسه بين سندان التراث المتجمد ومطرقة العولمة المهيمنة، فتشتتت الهويات وتآكل الانتماء، وزادت الفجوة بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية، وبين المثقف والجماهير.
رابط العدد الأول من جريدة الأندلس الأدبية..