حين تتحوّل الكتابة إلى مرآةٍ للروح، ويغدو القلم وسيلة لفهم العالم وإعادة تشكيله، يولد كاتب لا يكتفي بأن يروي ما يشعر ويؤمن به، بل يسائل، ويحاور، ويضيء العتمات الخفية فينا. هو كاتب وإعلامي ينسج من حرفه عوالم تنبض بالحياة وتترك أثرًا لا يُمحى… عوالم تتوغّل في الوعي والذاكرة، حاملةً قضايا الإنسان وهمومه وهمس الروح. رئيس تحرير مجلة القلم الصادرة من السويد، وعضو فاعل في الاتحاد العالمي للمثقفين العرب، يحمل في رصيده تجربة إذاعية لافتة عبر تأليفه لمسلسل (كل عيلة ولها حل) عام 2019، ذلك العمل الذي لامس تفاصيل الحياة اليومية بأسلوب آسر وواقعي.
إبداعه يتوزع بين الرواية، والقصة، والمقال، والنص الأدبي، ليمنحنا أربع محطات فكرية وجمالية: رواية خريف لأربعة فصول، مجموعة قصصية “كلاسيكيات” ، عزف منفرد، مقالات تنبض بالحكمة والرؤية العميقة؛ وأخيرًا آدم…
إنه صوت لا يمر مرورًا عابرًا، بل يترك أثره حيث مر، كأن كل سطر من كتاباته توقيعٌ على جبين المعنى.
رئيس تحرير مجلة“القلم”
الكاتب والإعلامي سمير عالم
ما الذي ألهمكم لاختيار اسم “القلم” لمجلتكم الإلكترونية؟ وماذا يمثل هذا الاسم بالنسبة إليكم؟ وهل سيبقى للقلم رمزيته في زمن التحول الرقمي الذي جعلنا نستغني عن القلم؟
ارتبط القلم في مخيلة الإنسان دائماً بالمعرفة والفكر، إنه السلاح الذي حارب به المفكرون الجهل، ووسيلة الإنسان إلى الخلود من خلال كلماته وأفكاره وشعوره.
أداة ساهمت بشكل أو آخر في بناء حضارة الإنسان وحفظ إرثه وتاريخه ومعارفه من الضياع، ونقلها لأجيال لاحقة.
مَهيب بالقدر الذي يُلهمك، وطيّع بحيث يكتب بصمت كل ما يُطلب منه ودون عصيان.
منذ سنوات طويلة توقفت عن استخدام قلم الحبر الجاف، ولا استخدم سوى قلم الحبر السائل للكتابة أو للتوقيع.
وفلسفتي في ذلك؛ أن علاقتنا بقلم الحبر الجاف لا تمتلك صفة الديمومة، وفي لحظة ما سيستنزف حبره وينتهي دوره، بخلاف قلم الحبر السائل الذي قد تمتد علاقتنا به لعقود وربما لعمر كامل.
ومن هنا تنشأ الرفقة بيننا وبينه لأمد طويل، وبعد أن تكون ريشته قد خطت مشاعرنا وأفكارنا في أسوأ لحظاتنا وأجملها، وقلمي الحبر الذي أملكه حالياً، يرافقني منذ ما يقارب الـ 18 عاماً، وبذلك هو جدير بأن يوضع في الجيب حيث يكون قريباً من القلب، ويظهر في كل صوري التي خلدت أي ذكرى.
ورمزية القلم ستدوم ما دام الإنسان على الأرض، حتى وإن تراجع استخدامه مع وسائل الكتابة الرقمية.
ما الذي يميز مجلة “القلم” عن غيرها من المنصات الإعلامية الإلكترونية؟
ربما انتقائيتنا تغضب البعض منا، ولكنها تجذب آخرين بكل تأكيد، فنحن انتقائيون لحد بعيد، نبحث عن الفكرة العميقة، والطرح الرصين.
بصفتي أحد المؤسسين للمجلة وأترأس تحريرها؛ لا أشغل نفسي بفكرة التميز، ولا أطمح إلى منافسة أحد، وما يهمني في الأمر، هي القيمة التي أسعى لتقديمها للقارئ، والقيم التي أتطلع لترسيخها لديه.
نؤمن بأن ليس كل ما يكتب يستحق النشر، وأن ظاهرة (استسهال الكتابة) المنتشرة بين عدد لا بأس به من الكتّاب؛ ستؤدي حتماً إلى تنصيب الأدب الركيك كمقياس للإبداع لاحقاً، والنظر إلى الفكر السطحي وما ينتج عنه على أنه حكمة وفلسفة، وأن يتحول الإسفاف إلى نموذج للأدب.
معادلة نعمل على موازنتها في كل ما ننشره، وهي أن يكون طرحنا عميقاً وبسيطاً في آن معاً، بعيداً عن اللغة المعقدة.
كل ذلك انعكاس لمدى احترامنا لعقل القارئ، ورفضنا لفكرة التسطيح، أو تشويه صورة الأدب.
كيف توازن بين القيم الصحافية التقليدية ومتطلبات الإعلام الرقمي الحديث؟
الثوابت لا يمكن لها أن تزول وإن كان حظ الصحافة التقليدية آخذ في التراجع.
ما اختلف اليوم هي وسيلة النشر، وأنماط القرّاء، والذين باتوا يميلون إلى المادة القصيرة والمكثفة، التي تقدم لهم المعلومة المتخففة من الحشو الزائد.
ونحن ندرك هذا المتغير لدى القارئ، ونحرص على أن تكون المواضيع التي نطرحها تتضمن الخطوط العريضة في كل مادة ودون المساس بقيمتها.
ما هي أبرز التحديات التي واجهتكم أثناء تأسيس المجلة؟ وكيف تجاوزتموها؟
التحديات دائماً موجودة، وبحكم تجربة سابقة لي في إصدار مجلة، فكانت مسألة التكلفة المادية عائقاً أساسياً أمام الاستمرار.
ولكن ربما مجلة القلم الثقافية، تمكنت من الانطلاق دون تحديات في بدايتها، وذلك بفضل الله أولاً، ثم بتبني الاتحاد العالمي للمثقفين العرب بالسويد للمجلة، والتي تولت مسئولية تسجيل وترخيص المجلة من المكتبة الملكية السويدية.
ولكن التحدي القائم حالياً يتمثل في العثور على المادة الثقافية القيمة، والبحث عن الأقلام التي تمتلك فكراً ولغة تستحق أن نمنحها مساحة للتعبير والتواجد.
كيف تختارون المواد التي تنشرونها؟ وهل هناك خطوط تحريرية لا تتنازل عنها المجلة؟
من يتولى مهمة رئاسة تحرير أي مجلة اليوم؛ سيدرك سريعاً ما يعانيه الوسط الثقافي من مشاكل، وأن الكاتب المميز بات عملة نادرة.
وكما أشرت سابقاً هنا، نحن انتقائيون للغاية، نبحث عن المادة التي تعكس رقي الفكر والكلمة، والطرح العقلاني الذي يناقش الفكرة ولا يُمليها على القارئ.
ونتجنب نشر المقالات التي تستمد الإلهام من خلال اجترار الأفكار وإعادة طرحها، بحيث لا تقدم أي جديد، أو أنها تتبنى لغة الخطاب التقليدي والسائد، دون أن تكون للكاتب فيه بصمة فكرية تميزه عن غيره.
وعندما أستشعر في المادة التي تصلنا للنشر ملامح جميلة لفكر الكاتب، مع عدم قدرته على صياغة كل الأفكار بشكل متناسق -عند الكتّاب الناشئين غالباً- ألجأ حينها إلى إعادة تحرير بعض الأجزاء، ومن ثم عرضها على الكاتب للحصول على موافقته.
هل لدى “القلم” خطة مستقبلية للتحول إلى نسخة مطبوعة أو توسعة نوعية جديدة؟
فكرة إصدار نسخة ورقية مطبوعة من المجلة؛ فكرة محكوم عليها بالفشل مسبقاً، ولنا في مؤسسات الصحافة العريقة مثال حي على ذلك.
فكافة الصحف المعروفة منذ عقود تمتلك منصات رقمية اليوم، وهناك صحف أخرى توقفت عن إصدار النسخة الورقية والتحول إلى الصيغة الرقمية بشكل كامل.
فريق تحرير مجلة القلم، لم يصل إلى مرحلة الشيخوخة الفكرية حتى الآن ليتوقف عن الابتكار أو أن يبهت طموحة، ولذلك فالأفكار الجديدة مطروحة دائماً، ومنها ما سعينا لتحقيقه ونجحنا، ومنها ما لم نتمكن من إنجازه لظروف مختلفة، ومنها ما يتطلب المزيد من الوقت لتتبلور الفكرة، أو توفر المزيد من الإمكانات الغير متاحة لنا حالياً.
ما هو الدور الذي ينبغي على الصحافة أن تؤديه من أجل خلق واقع مختلف؟
وجهة نظري، أن على الصحافة أن تمنح القارئ أدوات التفكير الصحيحة من خلال كل ما تطرحه؛ ومن ثم تترك له الفرصة لبناء قناعاته.
عليها الابتعاد عن بث الرسائل المباشرة، التي تفقد قوتها وجاذبيتها كلما كانت واضحة وصريحة، وفي اعتقادي أن الرسائل الضمنية وما يقبع بين السطور لديهما القدرة الأكبر على التأثير.
صياغة الرسالة بحاجة إلى احترافية، ولكن الترميز فن يتطلب الذكاء.
هل ترى أن الصحفي ما زال قادراً على التأثير في وعي الناس؟ أم أن هذا الدور انتقل إلى مؤثرين آخرين؟
دور الصحفي والمثقف الحقيقي تراجع كثيراً، وللأسف هذا واقع ينبغي الاعتراف به.
تعددت وسائل النشر، وتصدر المشهد شخصيات تسعى للظهور والشهرة، وتحقيق العائد المادي فقط، دون إقامة أي وزن للقيمة الحقيقية للمحتوى المطروح، ودون امتلاك الكثير منهم للحس الإعلامي.
العمل الصحفي عمل إبداعي في المقام الأول، حاله حال باقي المجالات الإبداعية من آداب أو فنون، تتطلب حساً إبداعياً واطلاعاً واسعاً ومعرفة، ومتى توافرت هذه العناصر في شخص؛ سيكون قادراً على تقديم شيء مميز.
أصحاب ما يسمى سابقاً بـ (الفرقعات الإعلامية) موجودون دائماً، وهم يعتاشون اليوم من تصاعد مؤشرات (الترند) ومشكلتي ليست مع هؤلاء، لأنهم لا يمثلون سوى ظاهرة تنطبق عليها القوانين الكونية في السطوع ومن ثم الأفول والزوال، ولكن مشكلتي في من يتصدرون المشهد ويقدمون أنفسهم كمثقفين، والحقيقة هي أنهم بارعون في البحث عن نتاج فكر الآخرين، ومن ثم تجميعه وطرحه على أنه فكرهم الخاص، وبذلك يتحول الخواء إلى رمز فكري.
إلى أي مدى ترى أن الحرية والمسؤولية تتصارعان في العمل الصحفي؟
أرى أن الشعور بالمسئولية مسألة نابعة من الضمير، وقائمة على مدى إدراك الصحفي لمدى إيجابية أو سلبية أي طرح، وتأثيره المنعكس على المجتمع.
أنا مع الحرية المنضبطة والمسئولة، وضد العمل على خلق أي صراع مع من يخالفنا الرأي لإحداث التغيير، أو الرغبة في إحداث أي تغيير من خلال آلية الصدمة أولاً.
يمكننا دائماً طرح كل أفكارنا، ولكن من خلال اختيار الصيغة المناسبة، ومحاولة تبني أسلوب إحداث التغيير بهدوء وعبر بناء القناعة.
هل مررت بلحظة شعرت فيها أن الكلمة قد خذلتك؟ أو أنك كتبت ما لا تؤمن به؟
بالنسبة لي لم أقع في هذا الفخ، لأن ملكتي الأدبية لا تعمل من خلال ضغطة زر، وأعني بذلك أنني لا أكتب من خلال استدعاء الأفكار.
الفكرة لدي تنشأ فجأة، وقد أستغرق أسابيع طويلة في التأمل، وإعادة تدوير الفكرة في مخيلتي قبل أن أقرر كتابتها.
وبذلك أنا لا أكتب إلا من خلال حالة شعورية منبعها الذات.
ما الذي تعنيه كتابة القصة أو الرواية بالنسبة لك؟ وما هي إصداراتك في هذا المجال؟
لدي رواية بعنوان (خريف لأربعة فصول) ومجموعة قصصية بعنوان (كلاسيكيات)
وانتهيت مؤخراً من كتابة روايتي الثانية، وأتطلع لأن تر النور يوماً ما، كما أن مجموعتي القصصية الثانية لا تزال في طور الكتابة.
القصة القصيرة أو الرواية، هي وسائل أخرى للتعبير عن الأفكار، وخلق عوالم يمتزج فيها الواقع مع الخيال؛ ليعكس شيئاً من حقيقة الحياة بكل تفاصيلها، من خير وشر، أو سعادة وخذلان.
حيث يُسمع صوت الإنسان، ويتحدث فيها الكاتب من خلال شخصيات أخرى عن معاناته، أو أحلامه، والحياة المثالية التي يبحث عنها، ويقحم القارئ في عوالمه دون أن يشعر بأنه بات جزءاً من كل ذلك، ويجبره على التفاعل مع الأحداث بمشاعر صادقة.
ولا أنكر أني اكتشفت أشياء كنت أجهلها عن نفسي، من خلال الشخصيات التي أوجدتها في كل قصة، وكأن أفعالها وردات فعلها والحوارات التي تجري على لسان تلك الشخصيات؛ عملت على إعادة صياغة كل الفلسفات التي كانت لا تزال تائهة بين الأفكار لتبدو بعدها أكثر وضوحاً بالنسبة لي.
ما الذي تتمنى أن يحققه “سمير عالم” في السنوات القادمة؟
إدراك الإنسان ووعيه ينشئان من خلال ما تستقبله حواسه الخمس، وأنا منذ سنوات أخاطب المتلقي من خلال حاسة واحدة لديه فقط، وهي حاسة البصر.
أطمح لأن أتمكن من مخاطبة المزيد من حواسه، وأسهم في تشكيل وعيه، وأن أقدم أعمالاً مقروءة ومرئية ومسموعة.
سبق لي وأن قمت بتأليف مسلسل إذاعي، وتمت إذاعته في 2019، ولكني آمل في تقديم المزيد.
ما النصيحة التي تقدّمها للجيل الجديد من الكتّاب والصحفيين؟
أوّلاً، إدراك مسئولية الكلمة، واحترام عقل القارئ.
على الكاتب أن يكتب ما يؤمن به ويشعر به، وليس من أجل أن تعجب كلماته الآخرين فقط، ولا يعني ذلك التمرد على القواعد، ولكن صياغة الإبداع بشكل متفرّد، وتشكيل الهوية الأدبية الشخصية مع إبداء الاحترام لمكانة الأدب والصحافة وقواعدها.
ركز على القيمية الفعلية لما تقدّمه، والمعنى الحقيقي لما تكتبه، لكل صنعة فنونها، وفي مجال الكتابة والصحافة؛ الكلمة وسيلة لغاية أسمى، وهي تشكيل الوعي.