يتيح الحب لنا الوصول إلى أبعد من أنفسنا – بوفوار
كمعجزة فنّية اجترحها سرياليّ أمثال بول ايلوار، لوي اراغون، اندريه برايتون أو ربما سلفادور دالي وقفت أمام معجزات الشاعر محمد عيّاش أبحث في تلقائيته الموزونة الواعية عن رمزية المعنى وملامحه، متقفّية مركب الحب حيث كان يجذف نحو كينونة قلبه وقصيدته، مؤمنًا أن الحب وحدَه ما يستفز ويثير شهوة الشاعر في الكتابة بغض النظر عن عدد النساء اللواتي مررن في قصائده، لكن الحب يبقى واحدًا، يحملنا إلى أبعد من أنفسنا، إلى حيث يسكن الشّعراء.
وكنرجسة ترنو إلى ثغر الماء، تفتحُ القصيدةُ جفنيها في وجه الأنا ساردةً النظرات بمعانٍ منظّمة، ومن باب التأويل تسرح بتوقعاتك نحو مكتب نزار قباني لتراه جالسًا مع أوراقه وكتاباته ونرجسيّته، متأمّلا أن يُنصَف التصور الأول بعد العبور إلى الكلمات.
ربما كان تعبير نزار عن تمجيده لذاته عذرًا يرفع عن الشعراء ذنب النرجسية فشرَع لهم الإنغماسَ بلذّة التصفيق لأناهم العليا أو “أنا” لغاتِهم العليا.
وكما تعزيز المتنبي لأناه حين يقول :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي”
“وأسمعت كلماتي مــن به صمم
كذلك الشاعر محمد عيّاش في قصيدته “المدخل” إلى شِعره ينبئ بعزّة القوافي التي تلمّها معاجم ثلاثة (الرب ، الحب، والمتنبي)
في هذه الكلمات اختتم أبيات قصيدته ليُحكم القبض على العزة بكامل معانيها.
يشدّك تماسك الأبيات فتمشي على ميزان مشاعرك بالالتزام على حبل المعنى. لا نشاز، لا ضوء عال يغمض عينيك، لا أمواج تتلاطم بمركبك ولا ريح تقلّم أشجارك. لا أعلم إن كان هذا الهدوء يفي بغرض الدهشة أو خلاص القصيدة أو ربما الإيحاءات التي تميل بك صوب مطاردة مجنونة للمعنى، ولكن لا شكّ أن انتظام النبض سيؤدي بك حتماً إلى خلاص هادئ من بين ضلوع القصيد. وممّا لا شكّ فيه أيضًا هو رصيد الشاعر المعرفي الشعري الذي يزرعه بين السطور ليحكي لنا عن استثناءات مرّت على جسد القصيدة وقطّبت جوازات مرورها بتفعيل إيقاع سلس المذاق.
في قصائده الكثير من الجروح المرّة وأمل بأن يمدّ له القارئ يده وينتشله من الاحتراق :
“يا قارئ شعري خذ بيدي
إن كنت أمامك مجروحا”
هنا وبعد أن قطعت القصيدةُ أميالًا من البوح، ارتمت أنفاسُها على صدر الورق لاهثةً تستمد روحَها من نظرات القارئ، وما إن استعادت حَنجرتَها حتى لبس الشاعر جانحيه وحلّق حاملًا صوته في قافية مغرّدة لعلَّ الطير يصير شاعرًا، فيحاور المرأة بمختلف ثقافاتها ما بين الجزائرية والتونسية والدمشقيّة والمصرية، ما بين الخائنة والعاشقة والوفية، فينتحل شغف المرأة ومشاعر الإنتظار:
أنا كريحانةٍ، في جوفها شغفٌ
أن ألتقي رجلًا يهوى الرياحينا
أعيش في غرفةٍ وحدي كنرجسةٍ
أقضي نهاري مع المرآة تزيينا
وكأن الشاعر ينادي نفسه بلسان حبيبته ويبحث عن قصيدة تفرش مسافة ورديّة بينهما لتصير إحدى معجزاته.
وبرائحة الليمون والجُلنار تتعطّر قوافي
النساء في تمايلهن الأخير بين المعاني على الرّغم من محاولات الثورة لإغوائه واستمالة بوحه، إلّا أن تلك الغواية لم تشتعل وربّما تكون فتيلاً لديوان ثوري مؤجّل.
” حين أكون ثائرًا
ألغي دمي… وأستحيل نارا”
على أمل أن تنضج تلك النار في مسافات انتظار ديوان جديد.
الناشرة
ناريمان علوش