شاكر نوري: لو كان ربع عدد الشعب العربي يقرأ ويدفع لشراء الكتب كما يدفع من أجل الرفاهيات لكان الكاتب من الأثرياء

 

امتدّت ثقافته من بلاد الرافدين إلى برج إيفل، فأزهرت آدابه الخضراء سحرًا ودهشة. سطعت لغته في “نافذة العنكبوت” مرورا بالعديد من الاصدارات والروايات التي استقرت في “خاتون بغداد” ليُلبس التاريخ  لغةً من ضوء وعطر وينطلق صوب الشمس. هو القادم على حصان الإبداع فارسا بأناقته الفرنسية وأصالته العراقية وعنفوانه العربي، ليشرق نجمًا في سماء الإمارات . إنّه الإعلامي والروائي شاكر نوري.

لمجلًة ناريمان الثقافية حاورته ناريمان علوّش.

بداية أرحّب بك أستاذ شاكر ويسعدني جدّا أن نلتقي هنا في دبي ليجمعنا هذا الحوار.

بعد الجائحة التي اجتاحت العالم والتحولات الكبيرة التي غيّرت مسار المجتمعات والدّول، ما هو برأيك الأثر الذي تركه كورونا على الوسط الثقافي؟

برأيي إن تاثيرات جائحة كورونا لن تظهر الآن إنما ستبدأ بالتجلّي بعد فترة زمنية أي على المدى البعيد، وأنا ضد الكتّاب الذين يكتبون عن الجائحة الآن. على سبيل المثال وعلى الصعيد الشخصي، فقد أُصبت بكورونا وعشت خلالها في السديم، ولكن حينها عادت بي الذاكرة إلى عام 1830 ،عندما اجتاح الطاعون العراق. فالطاعون مثل كورونا لا بل أشد عنفًا، لأنه ترافق مع الكثير من الآلام والنزف. كان الأب حين يخرج من المنزل يُمنع من العودة إليه خوفًا من نقل العدوى إلى عائلته. لذلك نجد أن  العلاقات الأسرية تفكّكت حينها. وكذلك في بدايات كورونا حيث انعزل الجميع في منازلهم وحتى النظرة إلى الشخص المصاب تحوّلت وصار الجميع ينظر إليه على أنّه عدوّ له.

    – يعني تقصد أن تفكك العلاقات الأسرية خلال جائحة الطاعون ظهر بشكل فوري، برأيك ما التاثيرات التي ظهرت بعد مرور أعوام، اي الآثار على المدى البعيد من جائحة الطاعون، وهل تتوقع انها تتشابه مع الآثار التي سيتركها كورونا؟

إن التأثيرات ليست فورية. وذلك يعتمد على كيفية تصرّف المُصاب بكورونا مع المرض وكيفية تعامله معه.
وكما قلت لكِ انا ضد الكتّاب الذين يكتبون عن الجائحة الآن.

في تلك الفترة لم يكُن هناك إنترنت ولا ثورة تكنولوجية. برأيك هل الجسور الإلكترونية قرّبت مسافات الوعي والمعرفة بين الناس وصاروا أكثر وعيًا في كيفية التعامل مع الأمراض ومع الآخرين وحتى ايضا مع أنفسهم.

في الحقيقة وسائل التواصل الاجتماعي كلّما تطورت زادت العالم عزلة، اي أنها جسور وهمية. كنّا من قبل ننظر إلى عيون الآخر الآن صرنا ننظر في الشاشة.
صرنا مجرد كائنات آلية. فكم من الوظائف ستلغى في المستقبل لتحلّ الآلة مكان الإنسان. صار الذكاء الاصطناعي من العلوم المنتشرة الآن، فقد سيطر الحديد القاسي والجامد على كل العالم من حولنا. انظري إلى كل الامراض المنتشرة اليوم والتي تتسبب بها الثورة الحيوانية، نقتل الحيوان لكي نأكله. حتى معظم الامراض التي يصاب بها أولادنا سببها الغذاء غير السليم. أنا اقترح أن يتحوّل الإنسان من آكل لحوم إلى نباتيّ.

-وهل انت تباتيّ؟
بكل تأكيد، حتى أنظري إلى أسناني، هي كأسنان الأرنب الذي يتغذى على الأعشاب، وليست كمخالب الذئب.
آكل اللحوم يحتاج إلى تلك المخالب للتمزيق، أما انا فلا احتاج إلا إلى أسنان الأرنب.

جميع عباقرة التاريخ وفلاسفته وأدبائه، كانوا يقومون بجهد كبير في ابحاثهم للحصول على المعلومات، اما اليوم  ف “بكبسة زر” تستطيع ان تحصل على كل المعلومات التي تريدها. هل برأيك هذه البساطة والسهولة تحدّ من العبقرية وتضيّق آفاق المخيّلة؟

لا بل يدمّر البشرية، فقد قضى على ما يسمى بالبحث.
كنّا من قبل نبحث عن المصادر وندخل إلى أعماق الكتب، اليوم هناك سيل جارف من المعلومات. عالمنا على مشارف الدمار.
حتى السرقات الأدبية لم تبدأ إلا حين انفتح العالم على هذه المعلومات وتحوّل إلى عالم رقمي فصار من السهل جدا مد يد السرقة، حتى اضطر الإنسان إلى ابتكار آلات كشف السرقات لتكاثرها، فهي لم تكن موجودة من قبل.
حتى التلاميذ صاروا يعتمدون على العالم الرقمي و محرك البحث “غوغل” الذي يقدم لهم المعلومات من دون أي تعب وجهد. وأعطي مثالا على ذلك أولادي الذين لا يقتربون أبدًا من مكتبتي الضخمة ولا أحد منهم يقرأ كتبي.

 -يعني برأيك هذا التطور هو آداة هدم وليس اداة بناء؟

كانت أهدافه في البداية البناء، فالاختراعات كانت عبقرية الإنسان، ولكن انظري إلى النتائج. فقد تفوّقت الآلة على العقل البشري فقتلته.

-برأيك ما هو دور المثقفين في مواجهة هذه الآلات الهدّامة؟

لكل منّا اسلوبه في التحدّي والمواجهة، إما أن ينخرط في هذا العالم وإما أن يرفضه.

-هل ما زلت تستخدم الورقة والقلم في الكتابة؟

لا.. انا بصراحة كنت من أوائل الصحفيين الذين تعلّموا كيفية استخدام الكمبيوتر، حيث أخذت قرضًا من البنك لشرائه. كان حينها الحصول على الكمبيوتر يعتبر إنجازا كبيرا.
الكمبيوتر مهم جدا لأن يسهل عملية الكتابة والتعديل والنسخ واللصق.

هل برأيك سيتحول الكتاب الورقي إلى كتاب إلكتروني ولن يعود موجودا؟

-أكيد

-وهل أنت مع هذا التحول؟

لست مع وإنما التطور يفرض علينا ذلك، حيث إن الحصول على الكتاب الالكتروني أسهل واوفر.

-ولكن ماذا عن رائحة الورق والعلاقة الروحية بين القارئ والكتاب؟

اصبح ذلك من الماضي، هذا الجسد اي الكتاب قد اختفى ولم يعُد له وجود. نعم الجيل الماضي متعلّق بالكتاب ولكن الجيل الجديد يبحث عن  الامور السهلة والسريعة حيث يستطيعون الحصول على الكتاب بمجرد الضغط على كلمة “تحميل”.

اليوم أهديتني رواية “خاتون بغداد”،  التي حازت على جائزة عام 2017، هل هذا النوع من الجوائز يعتبر محفّزًا للكتّاب ولحبرهم؟ وهل هي غاية الروائيين؟

برأيي للجوائز جانبان، جانب سلبي وجانب إيجابي.
حيث إن الكاتب الذي يكتب سعيًا للحصول على جوائز هو ليس بكاتب ولن يصبح كاتبًا. وقد صار معظم الكتاب ينتظرون مواعيد الجوائز ويكتبون لأجلها.

-هل تختلف الرواية التي يكون هدف كاتبها الحصول على جائزة؟ وهل تستطيع لجنة الحكم أن تقرأ غاية الكاتب من خلال اسلوبه في الكتابة ؟

ربما هو ينظر إلى أن الجائزة الفلانية لا تريد التمرد ولا ذلك البطل الإشكالي  الذي لا يعترف بكل هذا العالم، وذلك لأن اغلب الجوائز هي تابعة لدول لها استراتيجياتها وأفكارها ومفاهيمها وسياساتها الخاصة.
ولولا ذلك فهي لن تتدخل في الجوائز التي تدعمها.
ومن جانب آخر يُمكن لدار النشر أن تقوم بترشيح الروايات التي تجدها مناسبة وناجحة، خاصة أن الكاتب العربي لا يحصل على إيرادات من بيع كتبه ولا تستطيع الكتابة أن تؤمّن له لقمة العيش. لو كان ربع عدد الشعب العربي يقرأ ويدفع لشراء الكتب كما يدفع من أجل الرفاهيات لكان الكاتب من الأثرياء. إن أكثر فئات المجتمع لا تقرأ، فالمحاسب لا يقرأ، والطبيب والمهندس والمحامي لا يقرأون. اما في الغرب فيختلف الأمر، ففي الغرب يهتمون بالكتاب ولديهم القدرة المالية لشراء الكتب . واعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية ساهمت في دعم هذا التخلّي بدلًا من التشجيع على القراءة.

فلنتحدّث قليلًا عن رواية العمياء. هل تتوقّع حصولها على جائزة؟

في الحقيقة لقد تمّ ترشيحها إلى عدّة جوائز وربما يكون لها الفرصة، إلا أنني لا أعير اهتماما للجوائز. ولكن بالتأكيد إذا مُنحت لي فلن ارفضها.

حدّثتني أيضًا عن الرواية التي تكتبها الآن والتي يتخطى عدد صفحاتها الألف صفحة، هذا المخزون الذي في داخلك والذي تسكبه على الورق، كيف يتكوّن في داخلك ويكبر ومن أين يتغذّى؟

في هذه الرواية بالذات اجتمعت ثلاثة عناصر مهمة، الحرب- هل تعرفين معنى الحرب، عالم بأكمله – والطاعون والفيضان… تخيّلي، يقول  أحد أبطال الرواية : لا يمكن أن تجتمع هذه الشرور الثلاثة آنذاك عام 1830
وعندما ثار والي بغداد أي داوود باشا ورفض تسديد الضرائب إلى السلطان العثماني محمود باشا، قرر محمود  باشا أن ينهي هذا القائد ويستعيد بغداد.
والتاريخ يعيد نفسه، فهذا ما حصل ايضا مع  نظام صدام حسين وأميركا.
هذه الملحمة الكبيرة هي ما دفعني إلى الدخول في تفاصيل  الشخصيات والتاريخ والتوسّع فيها.
هناك جانب تاريخي وهناك جانب شخصي، فلكل شخصية معاناتها الخاصة وارتباطاتها. فداوود باشا الذي خُطف وسُرِق من جورجيا وأتوا به إلى إسطنبول كي يُباع في سوق النخاسة في بغداد، تخيلي ان هذا الرجل قد صار والي بغداد، من طفل مختطف إلى والٍ. ومن الملفت أن كل المال الذي كان يرسله إلى والدته بنت به كنيسة لتدعو يسوع المسيح أن يغفر ارتداد ابنها عن ديانة المسيحية واعتناقه الإسلام . وتخيلي تلك الدائرة… تخيلي أن محمود باشا حين ارسل رضا باشا كي يحاصر بغداد ويقتحمها، طلب منه أن لا يقتل داوود باشا لأنه رجل عظيم، فعلى الرغم من العداوة التي بينهما لكنه قدّر فروسيّته. ودارت الأيام وبقي في اسطنبول لفترة فاحتار ماذا يفعل به إلى أن عينه في مكّة كي يدير الحرَم وحين توفي دُفن إلى جانب عثمان بن عفّان. حتى أنّ آخر ترميم للكعبة كان داوود باشا من قام به.
هذا هو داوود باشا، إنه لرجل عظيم فعلًا.

-أقمت مدة 27 عاما في فرنسا، ما مدى تأثرك بالأدب الفرنسي؟
حين ذهبت إلى باريس كنت أبلغ من العمر 27 سنة، وبصراحة كل من يعيش في فرنسا وبالأخص في باريس لا بدّ من أن يصبح فرنسيّا.
وذلك لأن الثقافات الكبيرة والعظيمة غالبا ما تدمج الآخرين فيها لعظمتها. فالثقافة الفرنسية علّمتني كثيرا  كما لدي الكثير من الأصدقاء الكتّاب و الأدباء الفرنسيين. فالروح تتأثر، والأسلوب، وطريقة الكتابة والسرد… اتعلم  من مارسيل بروست، فلوبير ومن كل هؤلاء الكتاب…
كما إنني حاصل أيضًا على ماجستير باللغة الانكليزية
إنّ تعدّد اللغات  يدعم الكاتب ويُنضِج نظرته للغة، حتى نظرته للغة العربية، حيث يعمل على تطويرها وإضافة نكهات جديدة لها، مثلما الكتاب العرب أضافوا نكهة للغة الفرنسية مثل جورج شحاتة .

-كيف تجد مستقبل اللغة العربية، لغة الضاد؟
نعطي مثالا دبي… هي دولة عربية لكن اللغة المتداولة فيها هي الإنكليزية. هل ذلك يؤشر إلى سيطرة اللغات الأجنبية على لغتنا العربية الأم؟

إنّه موضوع مهم جدّا وسؤالك جدير بالإحتفاء. اللغة الإنكليزية هي لغة العلوم ولكن هذا لا يشكّل خطرًا على اللغة العربية، فلماذا نختار أحد الخندقين؟ لما لا نختارهما معًا. لماذا لا تكون اللغة الأجنبية سلاحًا إضافة إلى اللغة العربية. أعطيك مثالا إبني الذي يدرس هندسة الطيران حيث جميع المواد التي يدرسها هي باللغة الإنكليزية وأيضًا الانترنت ، ٩٩٪ منه هو باللغة الإنكليزية و١٪ هو للغات الأخرى.

برأيك كيف نستطيع أن نحافظ على اللغة وأن نحفّز اولادنا على القراءة والكتابة باللغة العربية فالجيل الجديد لا يعرف شيئا عنها، كإبنك مثلا، كيف تحفّزه؟ هل قرأ كتبك؟

لا، لم يقرأها. ونحن السبب لأننا وضعناهم في مدارس، أجنبية وذلك لأنها تضمن مستقبلهم فجميع الجامعات المهمة لا تقبل إلّا خريجي المدارس الأجنبية وخاصة في الاختصاص الذي اختاره إبني، هندسة الطيران. على أمل أن تقوده الطائرة إلى العوالم التي يحلم بها ونترك للغّة العربية مسارها العفوي الذي يشقّ الطريق إليه وإلى الجيل الجديد.