ليس سهلًا أن يتم تحويل التاريخ الجاف بما يحمله من أحداث باردة و احتلال واستعمار وجوائح وحروب وقلق وخوف من خسارة حضارة وتراث وثقاقة إلى حكاية جميلة تسرد الذاكرة بسلاسة النهر وبفصاحة رافديه، ولكن حين تقرأ رواية “خاتون بغداد” للروائي شاكر نوري ستدرك أن هذا العراقي الفرنسي الإماراتي قد أوجز التاريخ كلّه بلغة من ضوء وجمال.
“مِس بيل” أو كما ينادونها “الخاتون” هي غيرترود بيل، سكريتيرة المندوب السامي بيرسي كوكْس في العراق، أثناء الاحتلال البريطاني لها ، حيث عكس لنا الكاتب المراحل التي شهدها المجتمع العراقي وسياسته ، وصوّر لنا الاحتلال بملامح مس بيل، فتارة يتغزّل بطلّتها وزرقة عينيها واناقتها وكأنه يحاول أن يتحدث عن الوجه الايجابي للاستعمار البريطاني ، كما يرى البعض، كانهيار الإمبراطورية العثمانية وتحرير النساء من سطوة كرش خليل باشا، وإنقاذ التراث والأرض والحفاظ على الكنوز والحكايا والأساطير والمحاربة من أجل حمايتها، و عدم وجود أيّة دلائل تشير إلى أنهم كانوا يخططون للبقاء، فهم مجرد جيش عابر يبني ثكنات من رمال ولا يشيد قصورا خالدة. والاستشهاد بخطبة ستانلي مود التي نصبوها في ساحاتهم والتي يقول فيها إنّ جيوشهم لم تأتِ لتحكم كقوة غازية وإنّما كقوّة محرّرة.
وتارة يحكي عن عدم استقامة مشية مِس بيل بالكعب العالي وتعثّرها بأحجار الطريق التي آلت بها للسقوط مرارا، ممرّرا رسائله للاحتلال من خلال وصفه لمس بيل، تلك الفاتنة التي وطأت بلاد بابل، وقد نجح الكاتب في أن يختصر مسيرة الاحتلال كلّه بمشية ميس بيل،، كما أنني استطيع ان اختصر الرواية كلّها بالحديث عن وصفه لتلك المشية والوقوف عند باب كل بيت من حارات العراق والاستماع إلى وشوشات نسائه وخوفهن من أن يفضَّ الاستعمار حشمتهن التي راكمها العثمانيون الأتراك على مرّ خمسة قرون لتصبح كما وصف الكاتب قدرهنّ المحتّم.
حشمة النساء، شهامة البغداديات، معتقداتهن ومبادئهن كلّها كانت تهمس من ثقب الفضول لتقول : جمالُك لن يلغي وجودنا، كذلك عقائد العشائر الراسخة التي لا تهزّها العواصف.
وما يؤكد على ذلك هو أن مِس بيل في الحقيقة لم تتمتع بذلك الإغراء، لذلك حين كنت أقرأ وصف الكاتب لها كنت أرى بريطانيا الفاتنة تتمشى في شوارع بغداد.
اما البغداديون، فمنهم من الشعراء من مدحها أي من تغزّل بالاحتلال بهدف الحصول على الرضا والمكافآت وربّما بدافع الخوف ومنهم من هجاه بحثًا عن انتمائه وولائه ولكن تبقى غصّة الكاتب المخبؤة لا تخفى أبدا، محاولا الاجابة عن أسئلة البغداديين:
ما الذي يريده المستعمر من بلادنا؟ ما هو مصيرنا؟… .
كانت مِس بيل شخصية مثقفة وذكية وتمتلك من الحنكة ما يكفي لقراءة الوجوه وولوج عالم الشيوخ والعشائر ورؤساء القبائل وهذا ما سهّل مهمات المندوب السامي وتحقيق غاياته وأهدافه، ومن خلال الحديث عن هذه الحنكة استغلّ الكاتب ذكاءه لإظهار شدّة العراقيين وجبروتهم وعنفوانهم المتستر بثوب الحملان الوديعة، وتمرّد أرواحهم التي لا تخنع ولا تخضع لأي هيمنة، كيف لا وهم الشعب الذي يقرأ ويتألّم، كيف لا وهم كدجلة بكل تناقضاته. كل ذلك عكسه الكاتب في عيني الخاتون اللتين لم تتقنا القراءة فحسب ، إنّما كانتا تلمعان بحب دفين وقصّة فارسية تبوح بالعشق والصوفية وبلهفة لوّحتها ليالي طهران وقصائد الشيرازي ورباعيات الخيام، فهي التي طاردت فراشات قلبها، حينًا تتجمّد على ضفاف الخيبة ومن ثم تنهض بقوة الجنون السماوي للآلهة والشعراء وحينا تحترق في نار عذاباتها وبعدها تنطلق في حر الصحراء متمسّكة بلجام صهوة جوادها متسلّحة بالثقافة والكلمة.
قدّرت الخاتون الشعب العراقي وتماهيه مع الطبيعة وعبقريته وسعت لتعزيز حضارته وتراثه وأساطيره ومحو ما تركه العثمانيون من خرافات وشعوذات عبر تنظيم إيقاع الامبراطورية كي لا يتقهقر الشرق. فطالبت بالنظام الملكي و بتعيين الأمير فيصل الأول ليكون وليّ العروسة بغداد فيحميها من شهوات رجال التاريخ والبرابرة والغزاة الشهوانيين الذين لا يمنعهم حصن ولا سور، لذلك كان خيار النظام الملكي هو الأفضل في بلد مصاب بالنخر من الداخل، وهكذا يصنعون الملك ويتحكمون باللعبة.
رغم كل ذلك، كانت مس بيل خائفة دائما من الغموض المخبوء داخل العراقي، ومن ثورة ما يوقظها القدر في داخله تحثّه على الانتقام أو ربما من لعنة تشلّ قدم كلّ محتلّ، فكتبت عن العراق وكان قلمها هو الأداة التي تساعدها كي تكون بوصلة لندن في الرمال المتحركة، إلى أن توقّفت ساعة البرج البريطانية عن محاكاة الزمن وسقط النظام الملكي تحتها بهتافات الانقلاب.
شعرت بالتعب بعد الإنتهاء من قراءة هذه الرواية، التعب والحزن وأنا ارافق الكاتب في الرحلة الزمنية، حيث كان يمرُّ بجانب النّصب والتماثيل ليستنطق القصص والحكايا وينصت لهمس أرواح الحجر ورماد الوطنية و السلام ويمسح الاحتراق عن رفوفها وخزائنها الخشبية ويحاول لملمة بعضا من التاريخ الذي أفلت من ألسنة اللهب وتقفي البصمات التي سرقت الحضارة، يستمع إلى اعترافات الجواسيس المعلقين على اعمدة الكهرباء وسط صخب الاناشيد الوطنية ومن ثم يمر بموكب حسيني يلطم الصدور ويبارك سيرة الأئمة والأسياد والأنبياء ومن بعدها يدخل إلى حانة الرافدين محاولا ارتشاف النسيان في كأس من النبيذ وإسكات صوت خبطة أقدام الجنود البريطانيين والأمريكان خارج هدوئه، و في ختام جولته يلجأ إلى قبر الخاتون ليتناول معها استكانة شاي، بينما طائر الفينيق يرمقه من بعيد تماما كما تفعل الآن بغداد من خلف المسافة.
ناريمان علوش