دراسة أدبية نقدية
رواية مشهد البحر .
د.طراد حمادة
الدار العربية للعلوم ناشرون
فاتن مرتضى
البحر رمز الحياة والتّجدّد ، أمواجه التي تصعد وتنزل تشبه الرّوح ، هو مصدر الإلهام ، فيه طاقة إبداعيّة غموض وأسرار ، ينسج حكايات النّاس والأماكن .
يسترجع الكاتب في روايته المؤلّفة من قسمين ذكريات مرحلة من العمر لم تتحوّل إلى سراب . في مشهد الحرب كان ملاك الموت يتنقّل في المدينة بين القذائف والرّصاص ، مرتديًا معطفًا سماويًا يقيه ما كان يقع عليه من شظايا ..إنّها الحرب التي
بدأت أحداثها عام ١٩٧٥ ، تلاها الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢ .
اختار د. طراد عنوان ” مشهد البحر ” لرواية شاركنا فيها حلوها ومرّها وتعدّد مشاهدها .
بدأ القسم الأوّل بمشهد حب قبالة البحر ذكّرنا بأجواء ما قبل الحرب الأهليّة .
انتقل بعدها للحديث عن صداقة متينة جمعت بين الرّاوي وسعيد ابن مدينة بعلبك الذي
يملك شخصيّة جذّابة ، شعر أنّ هذا الإنسان المعجون من طينة الملائكة يجب أن يكون واحدًا منهم ، هم شبّان مثقّفون طلّاب جامعات نشأت بينهم صداقة متينة كانوا يجتمعون في” مقهى ايران ” في مدينة بعلبك التي شهدت معهم بداية
تأسيس المقاwaمة في لبنان ، آمنوا بحب الوطن وأنّ الحرب مشروعة من أجل الحياة ، الحريّة ، الكرامة وحقوق الإنسان . لم يُطلقوا رصاصة واحدة في الحرب الأهليّة لأنّها تراكم مجّاني للموت ، قرّروا التوجّه إلى الجنوب لأنّه الطّريق إلى الحريّة والخلاص أجمعوا على الحشد هناك واعتبروها الجبهة الرئيسية .
في مشهد المدينة كانت شوارع بيروت
وأحياؤها الداخليّة ومنازلها القديمة وعماراتها الحديثة ، تعيش حياتين متعاقبتين ، ما بين دوران اللّيل والنّهار . هي حال الحرب ، تختار فيها من تختار .. استشهد صديقهم همّام ..كان كلّ من الأصدقاء يقول : لعلّهم في قتلي يتركون رفاقي ، يجب أن أُقتل لكي يبقوا ..كان
الوادي من مجرى اللّيطاني إلى مجرى العاصي شاهدًا حيًّا على صلابة الرّجال ..كأنّ القضاء والقدر وضعهم أمام وجودين متناقضين ، كالحياة والموت ..في الرّواية يتكرّر مشهد الحبّ نحن نختاره ، فيما الحرب كتبت علينا وهي كره ..كتب سعيد لحبيبته سلمى : ” لا شيء في هذا العالم
يمنعني أن أكون لكِ ، ولا شيء يمنعكِ أن تكوني لي ، وجهان يذوبان في العشق ، مثلما تذوب النّار في مواقد الشّتاء ، أو مثلما تذوب قطعة السُّكّر في فم العاشق، أو قطعة الجليد في الرّبيع السّاخن ” ص ١٠٢ كان الكاتب كتوأم سعيد ، كلّ منهما يفهم الآخر في مشهد صداقة رافق أحداث الرّواية ، تمنّى له السّعادة فهو في عمر
الشّباب رمز القوّة الاندفاع العزيمة الصّلبة مثقّف مخلص وفيّ ..كانا يملكان نظرة مستقبليّة مشتركة ، أصبح موضع سرّه يطلعه على خبايا قلبه . “أثق أنّ روحي تقع في موقع الجذب من روحه ، وروحه تقع في موقع الجذب من روحي ” ص ٣٠ جمع صفات جعلت منه مقرّبًا من كلّ معارفه ، يُتقن فنّ الإقناع ويُتابع المواقف السّياسيّة .
في القسم الثّاني يسيطر مشهد القدر القادر على تغيير أدقّ الحسابات كان الكاتب وأصدقاؤه جماعة صغيرة يحاولون شقّ طريقهم في أسفار المكان والزّمان بالرّحلات الأرضيّة أو رحلات الرّوح . اضطرّ الكاتب للسفر إلى لندن أراد أن يأخذ سعيدًا معه ليبعده عن أجواء الحرب لكنّه
رفض . كانت فكرة القدر تسيطر على تفكيري حين ودّعته قال لي :
“سرّي معك بقيت أو رحلت ” ص ١٣٧ كان يرسم خطواته على لوح القدر ، لكنّها مكتوبة بحبر القلم الإلهي ، الإرادة الإلهيّة عبرت على خط الزّمان ، وذلك هو السّرّ العظيم ..البحر كان البداية مشهد الحب ، منه كلمات العشق ، ومنه جاء الرّصاص . كان يحلم بالسّلام ، وبالحرب حيث يلزم ، لكنّه رحل شهيدًا وأخذ معه كلّ أحاديث البحر ..
صوّرت الرّواية الواقع في مرحلة نشوء الميليشيات الأحزاب المقاwaمة ،
وتطوُّر التّيارات الفكريّة خلال مرحلة شهدت تحوّلات إقليميّة ودوليّة في الرّبع الأخير من القرن العشرين ، منها انقلاب
الوضع السّياسي في إيران لصالح حركة إسلاميّة أسهمت فيما يشبه انقلابًا فكريًّا ، طال تغيّرات عديدة على صُعُدٍ مختلفة ، وردت كذلك رؤية الكاتب الخاصة .
تحدّث فيها عن حربين متداخلتين الأولى بين اللّبنانيّين أنفسهم ، والثّانية حرب الاجتياح الإسرائيلي.
عايش الكاتب وأصدقاؤه الحرب ولم يتورّطوا فيها ولم يُطلقوا رصاصة واحدة في الدّاخل .
تكامل النّص الأدبي مع الواقع ، في تصوير دينامي سردي وافٍ . فالكتابة الرّوائيّة عن الحرب تبرز علاقة التّأثّر والتّأثير بين الواقع المعاش والأدب ، فهو المنفتح على
المجتمع نظرًا لطبيعته الطيّعة في التّعبير والتّصوير ونقل الأحداث ، هي بلاء يقع
ويضع الشّخصيّات إزاء خيارات وجوديّة حاسمة كنهاية سعيد بطل الرّواية التي
تكاملت من ناحيتي البناء السّردي والمشهد الدرامي . لم تخلُ من العبارات الشّعرية ، والنّفحات الصّوفية ، اجتماع الأصدقاء في المقهى كاجتماع الصّوفيين في الخانقاه ، واستخدام أسلوب التّعبير الإشاري الواضح الذي يناسب الخطاب
الرّوائي .
نقرؤها كمادة للتذكّر على مستوى الأحداث ، ونموذج يُقتدى على مستوى الحبكة والتّأليف . لعب الحوار بنوعيه المونولوج والديالوج دورًا مهمًا لأنّهم يؤمنون بأنّ أمرهم شورى بينهم . كما أظهر مستوى ثقافة الأبطال فقد كتب سعيد نجوى قلبه بأسلوب سريالي وهو
الذي كان يتابع دراسة دبلوم في اللّغة العربيّة وآدابها والرّاوي الذي كان متعمقًا بآداب اللّغة العربيّة وكتابة الشّعر وكذلك الفلسفة وعلم التّصوف .
ساعد الوصف على نمو وتطوّر السّرد ، جاء لغاية فنيّة أظهرت الأماكن بيروت بعلبك
طرابلس بنت جبيل ، الطّبيعة البحر ، النّهر والجبال ، الأصدقاء ، وكذلك المشاعر التي تنوّعت بما يناسب المواقف .
تمنّى الكاتب أن تذوب ثلوج الشّمال وتُغرق البحر لينتقم لموت سعيد ” حتّى تذوب ثلوج الشّمال ،وتخفّ الأرض ، وتصير طائرًا يحوّم عاشقًا فوق البحر ،عاشقًا كأنّه البحر “.. ص ١٦٠ قال سعيد : ” تحمل سرّي وأبقى ”
استشهد وبقي الكاتب يحمل سرّه وخلّد ذكره في رواية “مشهد البحر ” .
فاتن مرتضى
كاتبة وناقدة لبنانية