نظمت دار ناريمان للنشر ندوة حول ديوان “ظلّ من المنفى” للشاعر عبد المحسن محمد شارك فيها كل من الشعراء السادة حبيب يونس، المير طارق آل نصر الدين وناريمان علوش كما شاركت الفنانة ليديا بارود برسم لوحة معبّرة عن عنوان الكتاب ومضمونه والفنان مارسيل نصر شارك غناءً وعزفاً على العود.
أقيمت الندوة على مسرح بلدية الجديدة وقدمت لها الاعلامية كلود صوما بحضور عدد من الشخصيات الثقافية والاعلامية والاجتماعية.
كلمة الشاعر حبيب يونس في كتاب “ظلٌّ من المنفى”
للشَّاعر عبد المحسن محمد
الأربعاء 23 – 1 – 2019، بلدية الجديدة
أسعدَ الله ناريمانَ حضورِكم،
أيُّها المنفيُّون إلى القصيدة والجمال…
صغيرًا كنت حين ارتديتُ، معَ مريول المدرسة، قصائدَ ممَّا كان يعرف، في ستِّينات القرن المنصرم وما بعد، بشعر الثَّورة، أو القضيَّة.
كان أستاذي في اللُّغة العربيَّة، سوريًّا قوميًّا اجتماعيًّا، يحتالُ على برنامج الدِّراسة الرَّسميِّ، بإطلاع تلامذته على ذاك الأدب، المخفيِّ خلف شعارات سياسيَّة كانت تملأ الحياةَ آنذاك.
لم أكترث كثيرًا إلى كلمات، من مثل فدائيِّين، ومخيَّمات، ولاجئين، وتحرير، ومقاومة… جذبتني أبيات لا بل أشطر، شكَّلت، في جزءٍ منها، وعيي الشِّعري.
أجملُ ما في مريول شعر القضيَّة، “وطني ليس حقيبه وأنا لست مسافر”. أينك محمود درويش في حضرة الغياب؟
أزرار المريول: “في كفِّي قصفةُ زيتونٍ وعلى كتفي نعشي”. ليغنِّ غيرُك للسَّلام، سميح القاسم.
زنَّار المريول: “وأبوس الأرض تحت نعالكم”. يقبِّل الشِّعرُ ترابك توفيق زيَّاد.
أمَّا كُمَّا المريول فليسا سوى “سأرجع لا بدَّ من عودتي”، وقد عادت الحمامة المطوَّقة فدوى طوقان إلى جناحيها.
كبُرت… وراح الشِّعر يصبح وطني الثَّاني. كلَّ قصيدة أقرأ، تصبحُ حديقتي. كلَّ ديوانٍ بيتي. إلى أن حلَّت الحرب في بيتي الأول. بقي وطني الثَّاني منزَّهًا عن مفاعيلها وتأثيراتها… واتَّسعت اهتماماتي الأدبيَّة، ورحت أتفيَّأ سندياناتِ شعراء وارفاتٍ، حظيتُ بمعرفةِ أكثرهم.
كانت بيروتُ واحةَ الكلمة، ولمَّا تزل. وكان الشِّعر ماءها المدلَّل، ولن ينضب.
نسيتُ قصائدَ المريول… إلى أن صدح مارسيل خليفة، بخبزٍ من يدي أمِّ درويش، تناولته عن صاج الذَّاكرة طازجًا، وما حييت به فحسب، بل وباكتناهٍ لسرِّ ذاك الشِّعر، الَّذي عقد البارود والرَّصاص والكوفيَّات قوافيه على الأزناد، وملأ الدَّم والقبضات المرفوعة والصَّرخات الهادرة أبياتَه، وزيَّن الحنين والبيَّارات والزَّيتون، عنق كلماته.
وكدت أقتل، في كلِّيَّتي، لأنِّي كنت أحمل قيثارتي، كلَّ يوم، وأغنِّي مع زملائي لمارسيل خليفة. لم يعجب رأسي وسلوكي، أحدَهم، من حملة المسدَّسات، لا الأقلام، في كلِّيَّة الكلمة.
كدت، لولا أنَّ من كانت السبب في هجوم ذاك “الأحدهم” عليَّ، تدخَّلت وأوقفته عند حدِّه. عينُه عليها، صاحبُنا، وهي كانت معَنا تغنِّي…
كانت أيَّام.
شعر القضيَّة والثَّورة لم يفارقني. ولو اختلفنا في السِّياسة والمسار والعقيدة والنَّظرة والممارسة والهدف. حين يكون الشِّعر شعرًا، تسقط كلُّ الفوارق، ولا يبقى سوى الجمال.
غاب الكبار الَّذين صاروا نجومًا، وقد قيَّض لهم أن يروا بعضًا ممَّا ذرفوه دمعًا وأهرقوه دمًا، وطنًا، إلى أن يستعادَ الوطنُ جميعه. من رضي رضي، ومن خاب خاب، لكنَّ الحنين لم يغب، وقد ورثه عنهم من هم على دربهم… ومنهم من سيكون نجمًا في سماء تلك القصيدة.
عبدالمحسن صبري محمَّد، حجز له في تلك السَّماء نجمًا.
ظلُّه في المنفى أسرَّ لي بذلك.
وجعه المفتوح على شبابيك العودة المعلَّقة قال في الفسحات عصافيره وحلَّق، وحين يمشي فإنَّما الدَّمع آثار خطوه على رمل الخيبة، أمَّا حين يمتشق الرَّصاص، فيجثو الرَّصاص على ركبتيه أمامه راجيًا ألَّا يطلقه، لأنَّه مُتعَب مُتعب مُتعَب، حتَّى النَّزف.
أجمل ما في ظلِّه، أنَّه ظلٌّ… لم يرضَ أن يكون شجرة. خفرٌ هو في جراحه، ينِزُّ وحيدًا خلفَ صفحات مشرَعة على الغضب النَّبيل.
أجمل ما في منفاه، أنه خلوة مع حبيبة، تظن لها عينين، وشعرًا، وقوامًا، وشفتين، ويدين، وقدمين… لكنَّها خارطة ضائعة على كُرة الضَّمير الإنسانيِّ… ويا صوتي ضلك طاير، زوبع بهـ الضَّماير.
كلاسيكي عبد المحسن، غير تقليدي، خص القوافي بحبر صارخ، كمن يقول هنا لا نهاية، بل غيمة كثيفة، تمطر بعد قليل.
غنيٌّ بالمفردات المستقاة من ثقافة واسعة في الدِّين والتَّاريخ والرُّموز والإيحاءات، يوظِّفها حيث يجب، ولا يرهقها ليجد لها مكانًا، كأنِّي بها تقرأُه قبل أن يفكِّرَ، وتعرفُ من تلقائها أين تستوي.
متضلِّع من لعبة البحور، يسوقها إلى ينابيعه الدَّاخلية، تعويضًا عن جرس عودةٍ لم يُقرع بعد.
لغته مشدودة على وتري الفصاحة والبلاغة، وإن اعتراها، أحايين، سرد، أو هنات هيِّنات هيِّنات، صرفًا ونحوًا.
عبدالمحسن، شاعر أنت… تقبل قصيدتك قبلة القدس، وتليق بك القصيدة:
أَيُّ ظِلٍّ وَالْجِرَاحَاتُ مَنَافِي
وَشَتَاتٌ كَمْ تَمَاهَى وَالْفَيَافِي
أَمْسِ نَادَى، وَالْخَطَايَا سَافِرَاتٌ
فَكَبَا، يَا وَحْدَهُ، تَحْتَ الْهُتَافِ
كَيْفَ يَلْقَى وَجْهَهُ، حِينَ الْمَرَايَا
تَسْتَوِي كُرْسِيَّ جُرْحٍ وَاعْتِرَافِ
فَإِذَا مَا بَاحَ، فَالْبَوْحُ وَجِيعٌ
دُونَهُ الصَّمْتُ مِسَافَاتُ انْخِطَافِ.
أيٌّ مَنْفًى وَالظِّلَالُ السُّمْرُ بَدْوٌ
رُحَّلٌ… رَمْلُهُمُ عَادٍ وَحَافِي
مِثْلُهُمْ، تَمْشِي عَلَيْهِ النَّارُ قَهْرًا
وَبِهَا يَصْرُخُ: إِمْشِي… لَا تَخَافِي،
لَيْسَ فِي وَجْهِ الْخِيَامِ السُّودِ عَيْبٌ
إِنْ تَمَادَى الشَّوْقُ فِي جَلْدِ الطَّوَافِ…
أَيُّ ظِلٍّ؟ أَيُّ مَنْفًى؟ أَيُّ نَبْضٍ؟
قَلْبُ… قُلْ مَا فِي الْقَوَافِي مِنْ شَغَافِ،
واكْتُبِ الْعَوْدَةَ، لَيْسَ الْقُدْسُ دَارًا
هُوَ دِيوَانُكَ مَصْلُوبُ الْقَوَافِي،
هُوَ أَقْصَاكَ… وَمَا أَقْسَاهُ بُعْدًا
ظِلُّهُ جُرْحٌ، وَمَسْرَاهُ مَنَافِي!!!